»»
دراسة نقدية جديدة كتبها الأديب الروائي ابراهيم الديب ناقش فيها كتاب”المقاهي في مصر دمياط نموذجاً” للباحث والمؤرخ” محمدالسيد أبوقمر، وقد شارك بها مؤخرا في ندوة نادي أدب دمياط ،ننشرها عبر هذه السطور..
»»
“المقاهي في مصر دمياط نموذجاً..دراسة نقدية للباحث والمؤرخ” محمدالسيد أبوقمر
»» بقلم ✍️ الأديب ابراهيم الديب
مما لا شك فيه أن المقهى كان جزءا من حياة المدينة منذ فترة طويلة وأنه كان موجوداً بشكل مختلف على نحو ما ،عما هو موجود عليه الآن، فالقهوة التي استمد المكان اسمه من شجرتها لم تدخل مصر إلا في القرن السادس عشر عندما وقف أبو بكر بن عبدالله الشهير بالعيدروس على سر ثمرة شجرة البن الساحرة قبل أن تكون هذه الثمرة المنبهة التي عكف المتصوفة على تناولها ليظلوا في حالة يقظة من أجل ممارسة طقوسهم الليلية من الذكر والدعاء وقراءة القرآن والصلاة فكانت الثمرة بالنسبة للمتصوفة حلا سحرياً نموذجيا، أعتقد أن أغلب كتابات الأستاذ “محمد أبو قمر” حتى الأدبية منها حظ المؤرخ فيها والباحث أكثر نصيبا من حظ الأديب، يبدو أن تاريخ دمياط ، ليس مجرد موضوعا للكتابة بل هو شغله الشاغل و مجاله الأثير استطيع أن أصف الأستاذ محمد وأنا مطمئن أنه صاحب مشروع فكري أخلص له وعكف عليه فهو يوافق ميوله النفسية وقدراته العقلية و هو تاريخ دمياط ،ولا سيما في كتابه “المقاهي في مصر دمياط نموذجاً” المقهى من وجهة نظري لعب وكان له دورا كبيرا ومؤثرا في حياتنا وتاريخنا المعاصر ،نذكر منها على سبيل المثال قبل أن تذكرنا به كتب التاريخ :الدور الخطير الذي لعبته قهوة متاتيا بالاعداد والتمهيد لهبة الشعب المصري في وجهه السلطة المتمثلة في القصر والانجليز, فقد بدأت الثورة العرابية في عقول ونفوس الصفوة، أو النخبة المثقفة ، قبل أن تنطلق على أرض الواقع: من هؤلاء الصفوة على سبيل المثال:الامام محمد عبده, محمود سامي البارودي, وسعد زغلول, وعبد العال حامى وعبدالله النديم وبالطبع الزعيم أحمد عرابي, أما من كان يقوم ببث هذه الأفكار : التي تهز عروش وممالك و تضرب بمعولها مخلخلة لأركانها من أجل تغير نظم عيشها، وترفع شعارات وأفكار، تنادي للشعب بحقوق وحريات ، وتصحح عقائد وأفكار خاطئة، فهو الفيلسوف جمال الدين الأفغاني وبذلك تكون المقهى من وجهة نظري هي الأب الشرعي لنوادي الأدب ، وقصور الثقافة ،لأنها سابقة علي كل ما سبق ذكره لأن تجمعها يناقش كل ما يموج به المجتمع من قضايا سياسية واقتصادية مبرزا لسلبياته وايحابياته، فوظيفتها في هذه الحالة جزء من العقل الجمعي و تعبيراً عنه، ومقياس لجس نبض الشارع، وتكوين الرأي العام في الوقت ذاته.
ينشد بالمقهى أيضاً السير والملاحم الشعبية التي تصل الشعب بتاريخه ليقف على سر أبطاله ،كالسيرة الهلالية والظاهر بيبرس والشاطر ، والشاطر حسن ، وسيف بن ذي يزن ،وغيرها من خلال منشد يلتف حوله أصحاب الذائقة الأدبية من روادها.. وبما أن الكتاب عن القهوة فقد خصص الأستاذ محمد ،فصلا حشد فيه كل ما له علاقة بها ،باستفاضة من المشروبات التي يتناولها رواد المقهى ، وخص أيضاً عامل النصبة الذي يقوم بإعداد الطلبات ، ونال عامل الأرضية من الأستاذ محمد شرح وافي ، اما أنواع الدخان الكثيرة التي اعتاد رواد المقهى تناولها فقد ذكرها المؤلف بالتفصيل وذكر اسماء الدول التي يأتي منها أنواعه ،ولم ينسي أن يحدثنا أن القهوة كانت تتبع في الماضي منذ بداية فترة الحكم العثماني شيخ طائفة القهوجية، وهو ملتزم مخول من قبل السلطة يدفع لها مقابلا معلوما من المال، ثم يتناول الملتزم بدوره من صاحب كل قهوة مبلغا محددا مقابل ممارسته المهنة بتصريح منه تحت اشرافه وحمايته ،قبل أن تصدر الدولة ترخيصا للمقاهي لتصبح تابعة لها وتحت رعايتها ، طال حديث الأستاذ محمد عن سلبيات القهوة وايجابباتها ، وعن حضور للقهوة في حياة أغلب طوائف الشعب:فكثيراً ما تسمع أحدهم يتحدث إلى الآخر لقاءنا على المقهى بعد صلاة العشاء، واخر ينتظر صديقا له على المقهى بناء على موعد حدد سلفا ،وهكذا حتي يصبح الجلوس على المقهى لطقس حاضر نمارسه كجزء من حياتنا.
المقهى فرض وجوده تطور المجتمع وتحوله من سيرورة إلى صيرورة ، فكل مرحلة تاريخية تحمل سمات جديدة من نظم العيش بناء على قوانين التاريخ شبه الحتمية ،هذه القوانين لا تخص مصر دون غيرها بل تمس كل الاقطار التي مستها الحضارة، نأخذ فرنسا مثلا ندلل به على قولنا لنجد القهوة حاضرة في كتابات توفيق الحكيم وخاصة في كتابه “زهرة العمر” وفي كتابات فيلسوف الوجودية “جان بول سارتر” وصديقته “سيمون دي بفوار” فقد خصص لهما ركنا خاص بها، يلتقيان فيه المعجبين كما كانت هناك أيضاً مقاهي يعرض فيها الرسامون والفنانون لوحاتهم على الجمهور من خلال تواجدهم على المقهى وابداء الرأي فيها فكثيراً ما كان يتحقق الفنان أو الاديب من فنه وكتابته بشهادة من الأساتذة اللذين يتحلق حولهم التلاميذ في كل فن ، ولذلك تصبح القهوة مطلب حياتي وحضاري آن واحد، فرضته تعقيدات المجتمع الذي لا يكف عن التحول حتى تستطيع أن تصف المجتمع والتاريخ معا أن الثبات فيهما هو التحول الدائم.
هناك كتب كثيرة تناولت المقهى سبقت بالطبع كتاب الاستاذ محمد أبو قمر” فعالم القهوة عالم رحب وملهم من هذه الكتب على سيبل المثال لا الحصر كتاب ” مقاهي الشرق” لجيرار جورح ليميز ” تحدث فيه عن مقاهي الشرق عامة وكتاب آخر ” لإحسان عبد القدوس “على المقهى في الشارع السياسي ” وكتاب سمير سرحان” على مقهى الحياة ” وكتاب عبد المنعم شميس “قهاوي الأدب والفن” وغيرها مما يدلل على حضور المقهى في حياة وعقول الأدباء بقوة هو نصيبها الكبير في كتابات أديب نوبل نجيب محفوظ ، ولا يقل تأثيرها حضورها في أدبه عن تأثيرها على حياته الخاصة فقد ارتبط بها ،فكانت له على مقهى الفيشاوي ندوة أسبوعية اطلق عليه اسم “الحرافيش” وهم مجموعة أصدقائه المقربين منهم الفنان أحمد مظهر والمخرج توفيق صالح ،ومن ومحبي أدبه وتلاميذه ، لقاء أقرب للصالون الثقافي، ربما من أجمل الكتب التي قرأتها عن عالم المقهى والمستوحاة منها كتابا بديعا تناول فيه مؤلفه مقهى “عبدالله” وهو أحد مقاهي الجيزة للكاتب الكبير والساخر المدهش محمود السعدني كتاب بعنوان “مسافر على الرصيف “كان من رواد هذه المقهى الناقد الكبير أنور المعداوي وعبد القادر القط وزكريا الحجاوي، ونعمان عاشور، والشاعر محمود حسن إسماعيل وعبد الحميد قطامش وغيرها وخص منهما بفصل من أمتع ما تقرأ من أدب.
أما قنبلته ورائعته التاريخية فهي كتاب “مصر من تاني” التي عني فيه محمود السعدني بالتاريخ وكتابته من وجهة نظر أخرى وهي وجهة نظر شعب مصر الحقيقي من المهمشين والبسطاء والزعر والشطار ليسطروا تاريخهم من خلال رؤية محمود السعدني وقلمه الرشيق لتشعر كلما تقدمت في القراءة أن من كتب هذا أناس مثلك من رواد المقاهي، وممن تمازحهم ويجلسون معك تتبادلون النكات فيما بينكم ، وأنك أيضاً شاركت في كتابة تاريخك وقمت بتصحيحه ،ليحمل الكتاب بين دفتيه روح الشخصية المصرية بعد أن أطلقت كل ما بداخلها من مشاعر حقيقية تحمل بصمتها فاضحا التاريخ الرسمي الذين ليس لنا فيه أي دور فهو تاريخ السلطة والقصور ،أما كتاب السعدني فهو يضج بالحياة مبرزا لدور الشعب المصري الذي لم يخلو من هبات في وجه السلطة التي تعيد هذا الشعب المطحون مرة أخرى سيرته أكثر خصوعا وبؤسا، تحدث هذه الهبات على فترات متباعدة لتذكر الحكام أنه حي ويعي وأنه غير راض عنها. وكتابا آخر للدكتور شوقي ضيف بعنوان “الفكاهة في مصر” خص فيه المقهى بفصل بديع وهو خلاصة مجلس ظرفاء العصر .
ما مر بنا كان حديث عاما عن المقهى في أي مكان على أرض مصر ،أما عن دمياط نموذجاً فهي تتمتع بخصوصية حضارية فريدة ، لأنها أكثر انفتاحاً و تسامحاً في قبول الآخر المختلف تنتصر للإنسان دون النظر لدينه أو عرقه وثقافته ، تحظى دمياط بنصيب غير قليل بالذكر في كتب التاريخ و تراكمه وامتزاج الحضارات و رحيق عصارتها ،وسبب ذلك أنها مدينة ميناء تستقبل غرباء في كل يوم ، طاردة أيضاً لسكانها في الوقت ذاته فهم من سعة الأفق ما يجعلهم مؤهلين للعيش في أي مكان على ظهر البسيطة, فكان لابد للوافدين إليها من التجار والبحارة والمهاجرين لأي سبب ،على اختلاف اجناسهم بلدانهم وتباين ثقافتهم ، وحظوظهم من الثراء والنفوذ والمكانة الاجتماعية، أغلب المهاجرين إليها ينتمي لمدن البحر المتوسط وخاصة : شماله بحكم العلاقات التجارية المتبادلة ،التي خلفها وجود الميناء منذ القدم ، تستطيع أن تصفها بالمدينة العالمية لأن نسيجها الاجتماعي يتكون من عدة أجناس بشرية وأعراق ثقافية ،مختلفة لها رؤية وتصور خاص للكون والحياة تمليها عليها ثقافتها ،و لكن هذه الأعراق الثقافية والأجناس البشرية ما تلبث حتي تصهر بداخل بوتقة دمياط فمن طبيعة الأشياء أن الأوسع نظراً يستوعب الاضيق أفقا، الاكمل تصورا يستوعب الأقل نظراً، فشعب دمياط مر بتجارب حضارية وثقافية متمايزة على مدار تاريخه فهو من وجهة نظري أكثر انفتاحاً من غيره بالمقارنة من المدن المصرية الأخرى ففد ساعده تراكم الخبرة أثناء احتكاكه بالآخر على تذويب، من يأتي إليه بثقافة مختلفة، بتصور كما مر بنا مغاير عن الكون والحياة، ليشعر الوافد بعدها بقليل من الوقت وكأن من يأتي إليها حياته متصلة مع أهل المدينة و كأنه أحد أفرادها يعيش بينهم منذ فترة طويلة، فقد أكسب شعب دمياط الصدام الذي فرضه موقعه الجغرافي لأنه أول بلد يقابل الغزاة من اليابسة ، فقد تحول مسجد عمرو بن العاص الشهير لكنيسة ثلاث مرات خلال فترة الحروب الصليبية ،اكسبته الخبرة الطويلة المتراكمة أيضاً أنه تعلم صناعات من شمال المتوسط منها صناعة الأثاث من ميلان الإيطاليا وصناعة الجبن الرومي و الجلود وخاصة الأحذية والحلويات…
ما تحدثت عنه في السطور السابقة عن مجتمع دمياط ونسيجه الحضاري هو فحوى وجوهر:فلسفة فيلسوف الاجتماع الشهير الفرنسي دوركا يم ، بأن المجتمعات البشرية التي تتصف بهذه الصفات التي مرت بنا يتمتع نسيج سكانها بأخلاق مفتوحة، وسار على دربه وعمق فكرته تلميذه مؤسس علم الاجتماع الحديث : اوجست كونت، وهناك دراسة بديعة للأستاذ سليمان حزين بعنوان “حضارة مصر” تحدث فيها بالتفصيل عن هذه النظرية بأن سكان الدلتا يتمتعون بسعة الأفق لاختلاطهم بشعوب أخرى فقد اكسبتهم التجربة الطويلة في العلاقة مع الآخر وجعلتهم أكثر مرونة ولديهم قدرة على احتواء للوافدة إليهم وتذويبه وكأنه لم يغادر موطنه ، مقارنة بمحافظات الجنوب أو الصعيد الذي اشتهر مجتمعه بالانغلاق حتي أطلقت عليهم من النكات التي تصفهم بذلك ، دمياط إحدى مدن الدلتا بل مدينة ميناء فلابد في هذه الحالة أن يكون هناك مكان يأوي إليه من يفد و يأوي إليها من الغرباء ، عوضاً عن التسكع في الشوارع والطرقات ، وبديلا في الوقت ذاته عن بيوت أهلها الذي لا تستقبل الوافدين فانفتاح العقل دونه انفتاح دور السكن للغرباء ،لأن ذلك لا يتفق مع عاداتنا وتقاليدنا التي تقترب من القداسة، فكان المقهى حلا حضارياً سحرياً لهذه المعضلة الحياتية ، فهي بذلك تلبي مطلبا وضرورة اجتماعية، فهناك دائما مشتركا حضارياً بجمع بين أهل المدينة والوافد إليها من جهة ،ولكن أسرته وبيته بمعزل عن علاقاته التجارية فهو يفضل إتمام صفقاته بعيداً عن بيته، وهناك أسباب أخرى لارتياد رواد المقهى منها الزيارات المتكررة مقامات أولياء الله الصالحين مثل أبو المعاطي من المهمشين والبسطاء وخاصة من سكان الريف واجتماع الشباب ومناقشتهم في الادب والسياسة ،
تطرق أيضاً الأستاذ محمد أبو قمر في أول كتابه عن شجرة البن وعن الجغرافيا التي كانت موطن وبقعة أرض نبتت عليها ، فمن خلال قراءتي وتتبعي لهذه الشجرة الساحرة من عدة مصادر أن موطنها الأصلي هو اليمن ثم انتقلت منه إلى أثيوبيا بحكم الجوار عن طريق مضيق باب المندوب الذي كان أضيق مما هو عليه الآن في الماضي ، والعكس هو الصحيح بأنه كان موطن شجرة البن الاصلي هو أثيوبيا ثم انتقلت إلى اليمن أو أنها وجدت في التوقيت في اليمن وإثيوبيا معا، ولكن المؤكد أن هذه الشجرة انتقلت إلى أمريكا اللاتينية وخاصة إلى البرازيل من اليمن أو اثيوبيا أما أفضل أنواع البن على مستوى العالم فهو “بن” هذه الدول الثلاث .
كتاب الاستاذ محمد أبو قمر “المقاهي في مصر دمياط نموذجاً” فريد في بابه فلم أقرأ سابقآ أو نمى إلى علمي أن أحداً سبقه في الكتابة عن مقاهي دمياط ولذلك يعد: وثيقته اجتماعية تجولنا معه من خلال كتابه في دروب المدينة واحيائها، و شوارعها ,وازقتها, وحل ضيفاً على قراها ونجوعها يحصى لنا عدد مقاهيها، ولا ينسي أن يذكرنا بموقع كل مقهى الجغرافي على حدة وبمكانه على الخريطة، الكتاب أيضاً جزء من حياة وذاكرة مدينتنا، وقبسا من روحها فمن منا ليس له ذكريات مع المقهى هذه بعض انطباعاتي أو رؤيتي النقدية عن كتاب الأستاذ وعن المقهى و عن عالمها بضجيجه وصخبه المفعم بالحياة الذي يبدو في بعض الأوقات كأنه شلال هادر يعبر عن جنونها وعقلها وحكمتها ،في علاقة جدلية بينها وبين روادها .