»»
مهما طال أمد الحرب الخبيثة في فلسطين ،فسوف تضع أوزارها يوما ما ويبقي حصادها المر، ومع صمود أهل غزة واستشهاد ما يقرب من 20 ألف شهيد وإصابة ما يزيد عن الخمسين ألف من أبناء النضال ،فقد تكبد الصهاينة خسائر لا حصر لها علي كافة المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
كما أن تورط امريكا والغرب في هذا المستنقع الآسن يلقي بعشرات علامات الاستفهام ،تتطلب إجابات شافية،وقفات حتمية لاستخلاص الدروس،وإعادة قراءة تداعيات الأحداث ومحطات التاريخ بصورة فاحصة لو أراد العرب رسم ملامح مستقبل جديد ومغاير.
ولا ريب أن مرحلة ما بعد حرب الإبادة غير المسبوقة تختلف اختلافا جذريا عما سبق ، وتتطلب مراجعة دقيقة، لها أبعاد متعددة ،من بينها إعادة قراءة المشهد بآثاره ومخلفاته وفقا للمصالح العربية.
كما أن هناك محاورا أخري تتعلق بكيفية التحصن من تقلبات السياسة ومواقف الغرب الصادمة تجاه قضية فلسطين قضية العرب الأولي، والإصرار على عدم وقف إطلاق النار وإدانة ممارسات جيش الاحتلال ،ومعاقبة إسرائيل عن جرائمها التي فاقت كل الحدود.
والأمر الأكثر أهمية مراجعة العلاقة الاستراتيجية مع الآخر ومع دول الغرب والتخلص من المكبلات الحضارية،واتخاذ إجراءات فاعلة نحو التخلص من عقدة النقص والتخلف الحضاري،واليقين أن عالم اليوم أمسي ذا طبيعة خاصة تحتم البحث عن محددات جديدة ،وآليات ذكية وفاعلة للتعاون الحذر والتعايش المتوازن.
وفي تقديري أن أهم دروس المحنة إدراك ضرورة إيقاظ الوعي الوطني والقومي لدي أجيال وقعت فريسة للثقافات الواردة من بلاد العم سام وأتباعه وذيوله ،مدعومة بحشد من المنصات المجيشة ،التي تجيد سياسات المنع والمنح والاقناع،وتشكيل الرأي العام الأممي، وخلق تصورات غريبة تتحرك تدريجيا نحو ترسيخ مفهوم التنصل من الهوية وتشويه الانتماء للدولة الوطنية، للقومية العربية الأصيلة ،وتركز علي غرس روح التمرد، والقناعات الفاسدة الرافضة للواقع، وتتفنن في صناعة ثقافات استهلاكية ،طموحات لا حدود لها ، بعيدا عن العمل والإنتاج، ومن ثم البناء والإبداع!.
وأثبتت الأيام بما لا يدع مجالا للجدل أو الشك أن دول العالم المتأخرة والناشئة والساعية للنمو ،تجني حصاد ما اتخذته دول الغرب من مكبلات استراتيجية للإبقاء علي المسافات الحضارية للتقدم في كافة مناحي العلوم التطبيقية والإنسانية والإبقاء علي فكرة النموذج الأمثل وسر التكنولوجيا وآليات التحضر والحداثة.
أتصور أنه من الخطأ المطلق التسليم بفكرة التكامل الحضاري ،والذي أصبح من دروب المستحيل،لغياب عناصر الندية والتكافؤء، مع سعي مؤسسات العالم الأول لتصدير الإحباط للطامحين وللمبدعين في المعسكر الصامت ، وتثبيت فلسفة سر التكنولوجيا وحقوق الملكية الفكرية..
واحيانا تجفيف منابع الكفاءات ووأد طموحات المبتكرين والمبدعين ،وفرض معوقات و مبررات واهية لحصار الانطلاق نحو التغير والتغيير.
كما أن الإيمان المطلق بفكرة الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، ودعوات المقاطعة والعزلة لن يصب في صالح الانتصار للنفس وللهوية ،ولن يؤتي إلا مزيدا من التراجع ..
ولا ريب أن هذا يستلزم الكثير من الجهد والإمعان والغوص الفكري وتحليل أفعال الثقافة وتحولات الأيديولوجيا ومسارات الحضارة الإنسانية، ثم اتخاذ إجراءات فاعلة للتحصن من مفرزات الحضارة الحديثة علي المستوي الفكري والتقني والقيمي.
ويبدو أننا كعرب ومسلمين في أمس الحاجة لمراجعة منظومة العلاقات مع الغرب ،بشقيها المادي والمعنوي ،والبحث دائما عن الوجود والذات والتكافؤء الحضاري ومغادرة فلك التبعية،ونحن نمتلك كل المقدرات ،فقط الأمر يتطلب تحريك الدافعية والإرادة..
وما أجمل ما قال الرافعي :قول مصطفى صادق الرافعي «وإن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل، وإن نبيهم أطهر من السحابة في سمائها وأنهم جميعا ينبعثون من حدود دينهم وفضائله، لا من حدود أنفسهم وشهواتها، وإذا سلّوا السيف سلّوه بقانون، وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون.»
“وحي القلم جزء ١ ص ١٤ – اليمامتان “.
وفي تصوري أن التأثير الموجع لفكرة المقاطعة الاقتصادية لمنتجات الدول المناصرة للكيان الصهيوني، بما تحمله من رسائل شعبية من الممكن أن تؤتي ثمارها مع الأيام ومع تكرار الأزمات المماثلة، وبصفة خاصة لو تجاوزت مرحلة الشعبية ،وتم تطويرها علي المستوي الرسمي للدول العربية وبصورة أكثر وجعا ،مع تقليل إمدادات الطاقة بشقيها الأحفوري والنظيفة.
وبمنطق المصلحة الذى يحكم دول الغرب، أعتقد أنه قد آن الأوان للتوقف عن مناصرة هذا الكيان المارق عن مبادئ وقوانين الإنسانية،والذي جعل سمعتها علي المحك ،وهي التي تتباهي ليلا ونهارا بالحرية والديمقراطية ،وتتشدق زورا وبهتانا بشعارات حقوق الإنسان وحماية الأقليات.
ومن الحكمة أن تراجع الدول الغربية حساباتها بدقة قبل فوات الأوان ،وخاصة بعد وصل صوت الفلسطينين لجموع شعوب العالم ،وخرجت المظاهرات الحاشدة في مختلف أرجاء العالم تعبيرا عن رفض توحش وإجرام بني إسرائيل،واستنكارا لاستمرار هذه الحرب اللأخلاقية غير المتكافئة!.
ومن الحصافة أيضا أن تعزز الدول العربية
مواقفها السياسية الثابتة تجاه رفض فكرة التهجير القسري أو الطوعي للفلسطينيين.
ومن الدروس المهمة للعرب ضرورة مراجعة العلاقات الاستراتيجية مع الغرب ،ووقف التطبيع مع الكيان المحتل التي تورطت فيها بعض الدول العربية، وتدارك بعض الخطايا الاستراتيجية مثل وجود القواعد العسكرية الأمريكية علي الأرض العربية، وإزالة معوقات الوحدة والتكامل العربي ..
وعلي العرب من الآن اتخاذ إجراءات فاعلة وانتهاج سياسات مغايرة ،وتدشين استراتيجية جديدة لمراجعة العلاقة مع أمريكا والغرب علي كافة المحاور،لو أرادوا الحياة أو علي الاقل حفظ ماء الوجه وبقايا العزة والكرامة..وإنا لمنتظرون.