»»
في زمن المتغيرات والمتناقضات، من الطبيعي أن تجد الشيء ونقيضه في آن واحد، فما من تطور تقني إلا وله وجهان أحدهما مشرق وآخر مظلم مستتر ، يطل برأسه من آن لآخر بتأثيراته السلبية.
وسيظل الصراع محتدما إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها، بين ما صنعته أيدي الناس، وبين ما خلقه باريء الكون بتوازن فطري فريد وحكمة بالغة قد تعجز عقول البشر أحيانا عن إدراكها وتفسير مبتغياتها.
والفيصل هو مدي استيعاب أهل الأرض لفكرة صداقة البيئة والاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية، وفقا لمرتكزات التنمية المستدامة، دون إفراط أو تفريط.
وفي الوقت الذي يعاني فيه العالم من تفاقم المعضلة البيئية وتضاعف معدلات الاحترار، نتيجة لتزايد الانبعاثات والآثار السلبية للتغيرات المناخية صدم الكثيرون بتقارير تتحدث عن التأثيرات البيئية الضارة لتقنيات التكنولوجية المعاصرة، وعلي رأسها الذكاء الاصطناعي في مشكلة التغيرات المناخية.
هذا بعيدا عن تجاهل تقنيات العصر الرقمي للكثير من الأبعاد القيمية الإنسانية والأخلاقية.
ولكن كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي على البيئة ومعدلات التلوث؟.
تقول التقارير أن الذكاء الاصطناعي يهدد مخزون الطاقة على الرغم من الجهود الكبيرة التي تقوم بها شركات التقنية الكبرى للحد من البصمة الكربونية، فإن انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري قد ترتفع خلال الفترة المقبلة، والسبب تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وتتزايد المخاوف مع تطلعات شركتا “جوجل ومايكروسوفت” إلى تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي في محركات البحث الخاصة بهما، لكن خبراء البيئة والمناخ يحذرون من أن هذه الخطوة ستؤدي إلى رفع مستوى انبعاثات غازات الدفيئة.
ويبدو أن الصراع الذي اندلع لدمج الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في محركات البحث التي يتم استخدامها عشرات مليارات المرات يوميا، سيعمق جراح المشكلات البيئية المتصاعدة ما لم تتخذ إجراءات فاعلة في هذا السياق ،وحتي إشعار آخر.
ويري بعض خبراء التقنية أن الذكاء الاصطناعي يتطلب موارد إضافية للطاقة و يحتاج إلى قوة حوسبة أعلى بخمس مرات من القوة الحالية، ناهيك عن المزيد من مراكز البيانات الضخمة، والمنافسات المحتدمة والمتوقعة في صراع العالم الافتراضي الجديد، والذي يشهد كل يوم كل جديد ومتغير.
ويري فريق آخر أن شركات التقنية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة، إذ تنوي الاعتماد بشكل أكبر على مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، وربما يكون الحل في الإسراع في الاعتماد على الطاقة النظيفة بديلا لمصادر الأحفورية كثيفة الانبعاثات الكربونية.
وفي سياق إيجاد حلول لهذه الاشكالية قالت شركة “جوجل” في بيان إنها بصدد إطلاق نسخة مبسّطة وأقل استهلاكا للطاقة من روبوت “بارد” الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي للمحادثة.
وتوقع بعض خبراء المناخ و البيئة أن يزيد انتشار التقنية وشبكات الإنترنت من معدلات التلوث، ويقدّر الخبراء أن شبكة الإنترنت وحدها مسؤولة عن 4% من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في العالم، وسيتضاعف الرقم إلى 8 % بحلول 2023.
ويعود السبب في زيادة تأثير الإنترنت في التلوث إلى التطوير الذي ستشهده الشبكات حول العالم، وتنامي استخدام الشبكة العنكبوتية.
كما أسهم الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي في زيادة معدلات استخدام الإنترنت والأجهزة الذكية، الأمر الذي رفع الطلب على الطاقة، وبالتالي زيادة في معدلات التلوث.
ويستهلك الذكاء الاصطناعي طاقة أكبر نظرا للكم الهائل من المعلومات التي يتعامل معها، كما أن لجوء الصناعات الرقمية والطاقات المتجددة للأتربة النادرة كالرمال السوداء، وغيرها سيسبب نقصا كبيرا فيها مع احتمال نضوبها في المستقبل.
أتصور أن تأثيرات الاستثمارات الضخمة في عالم الذكاء الاصطناعي، لا تختلف كثيرا عن هوس المنافسة المحمومة في الصناعات كثيفة الانبعاثات.
وتبقي الحقائق أن العالم يمر بمرحلة فارقة في تاريخه، حيث تعمل الثورة التكنولوجية على تغيير أنماط حياتنا بسرعة هائلة، ومن ثم هناك ضرورة لغرس قيم واتجاهات جديدة والتخلي ولو تدريجيا عن القيم الاستهلاكية المتصاعدة.
وفي اعتقادي أن قناعة دعم ثقافة الاستهلاك والتطلعات لكل ما هو جديد، حصاد طبيعي للتنافس المحموم بين الشركات التقنية والذي بلغ حد الصراع، هدفه زيادة الاستهلاك مثل أي صناعة كالملابس والسيارات وغيرها.
ومن الطبيعي أن زيادة الاستهلاك يترتب عليها زيادة في الإنتاج وتنامي الطلب على الطاقة، لتكون البيئة الإنسانية في نهاية الأمر هي الضحية الأكبر لذلك من خلال مردودات وتداعيات التلوث بكافة صوره المفزعة.
ورغم ما حملته تطورات أجهزة الذكاء الاصطناعي من إيجابيات إلا أنها حملت في طياتها مجموعة من السلبيات التي لا يمكن تجاهلها لذلك تأتي التساؤلات وتتوارد علامات الاستفهام التي تبحث عن إجابات عملية وناجعة، عن كيفية تطويع نواتج هذا التقدم لخدمة البشرية دون إلحاق الضرر بمستخدميها أو بالبيئة المحيطة بهم، وهل يمكن ضمان حرية التصرف عندما تكون رغباتنا متوقعة وأفعالنا موجهة من قبل أجهزة الذكاء الاصطناعي؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد البشر للوصول لأعلى درجة من التقدم المنشود مع الحفاظ على حقوقهم وحريتهم؟ وهل مع تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتحول البشر أنفسهم إلى أدوات موجهة ومنفذة لأوامر أجهزة الذكاء الاصطناعي فقط دون أي إرادة لهم؟ وهل السبيل الوحيد للبقاء بمأمن من تهديدات أنظمة الذكاء الاصطناعي للبشر هو تنظيم إنتاجها ووقف تطوير ما تم إنتاجه منها ؟.
وعلى من تقع مسؤولة الحفاظ على حقوق الإنسان وسلامة البيئة في ظل تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي؟.
إنها معادلة صعبة تتطلب حلولا جذرية ومبدعة علي كافة الأصعدة المحلية والإقليمية ،ومن قبلها الأممية بعد تفاقم المعضلة البيئية وتعاظم تأتيراتها على كافة الأصعدة الأممية والإقليمية.
إن مؤشرات الواقع ورؤية استشراف المستقبل تؤكد أن عالم اليوم في حاجة ملحة لمزيد من التعهدات والاتقاقيات الدولية وتفعيل دور الأمم المتحدة بمؤسساتها الراعية للبيئة والتنمية المستدامة
وعلي المستوي الفردي غرس اتجاهات ايجابية نحو البيئة ولترشيد استهلاك الطاقة والتكنولوجيا والعودة إلى الحياة الطبيعية التلقائية الخالية من التعقيدات والتقنيات.