»»
من مورثات الحكمة والأمثال أن “كل نصاب يلزمه طمّاع”، و”كل دجال يلزمه جاهل”،
وهي حقائق ومتناقضات نعايشها في دنيا الناس تبدو من آن لآخر ،وإن ارتدت ثيابا مغايرة تتواءم مع مستجدات العصر وتقنيات الذكاء الاصطناعي والعقول الموازية فائقة الكفاءة والإبهار.
وبين الوجه المشرق لتكنولوجيا العصر والوجه الخفي المظلم ،مابين النقيضين الأبيض والأسود تتدبل وتتقلب أحوال وقناعات ورؤي أبناء المعمورة وحتي إشعار آخر.
وهناك من يتقنون توظيف الإيجابيات وإتقاء شرور السلبيات،ولكن “الطمّاعين” تجدهم دائما
يحاولون انتهاز كل ما هو جديد من تقنيات العصر لتحقيق مكاسب وأرباح طائلة دون جهد ودون إنتاج فعلي له مردود ايجابي نافع للبلاد والعباد.
هؤلاء الفئة من مقامري العصر يرتدون ثياب المضاربة و”اليانصيب” أحيانا ، وأحيانا يلجأون لتجارة “الفوركس”،عبر التداول غير المشروع للعملات وتحصيل فوائد ربحية ربوية دون وازع من ضمير ،أو مسؤولية اجتماعية أو وطنية أو عقيدية.
وما بين الأمس واليوم تعود للذاكرة الأساليب التقليدية لخداع البسطاء والطامعين في الثراء عن طريق الاقناع وبناء جدار ثقة وتجنيد بعض العملاء للدعاية وإقناع الناس بتحقيق مكاسب لا حدود لها بأساليب متنوعة ،ثم تأتي لحظة الاستيلاء علي رؤوس الأموال والهروب، وهي نفس سيناريوهات النصب والاحتيال الإلكتروني المقنع بحوافز متصاعدة وطرق أكثر جذبا وإقناعا،حتي تنفيذ المخطط الخبيث وإسدال الستار والبحث عن ضحية جديدة.
ورغم تحذيرات الجهات الأمنية المختلف من التعامل مع منصات التداول الإلكتروني غير المرخصة ، استثمار الأموال في العملات الرقمية بمختلف أنواعها وفي فخاخ منصات التداول والمقامرات الإلكترونية، فما يزال الكثير من الطامحين يقعون بكل حماقة فريسة سهلة لتلك الأفخاخ التي تستهدفهم وتحاصرهم ليلا ونهارا.
ولا أجد مبررا لأوهام الباحثين عن الثراء العاجل والفاحش ،إلا في قاموس “الطمّاعين”،وفي أجندة النصابين والمحتالين ،ممن يمتلكون قدرات فائقة علي الاقناع ،ومن ثم الإيقاع بفرائسهم بطرق ووسائل عصرية ومبتكرة للنصب والاستيلاء على أموالهم، عن طريق حسابات ومواقع غير مرخصة ،سواء في تداول العملات،أو المضاربات في السوق السوداء أومواقع المقامرات علي نتائج بعض مباريات الكرة وبعض المنافسات الرياضية،وغيرها.
ولعل من أخطر التداعيات المرة لهذا الظاهرة تورط عدد كبير من أجيال الشباب والناشئة الباحثين عن عمل في هذا المستنقع الآسن بحثا عن تحقيق أرباح سريعة دون عمل فعلي..
ومنبع الخطر الداهم هو السيطرة الوجدانية علي هؤلاء غرس ثقافة الاستهلاك والتمرد ،والعبث بمنظومة القيم والمبادئ والتشكيك فيما هو قانوني ،وما هو محرم وجائز.
ووفقا لما رصده الخبراء فمن أشهر طرق الاحتيال الإلكتروني التي انتشرت في السنوات الأخيرة:
– الاحتيال الشبكي أو الهرمي الذي يعتمد على توزيع أرباح شهرية على الأعضاء السابقين “لكن” من أموال المشتركين الجدد “الأكثر عددا”.
– خدمات الوساطة المالية ،كأن يغريك أحدهم باستثمار أموالك “نيابة عنك” في أسواق “الفوركس” والأسهم والعملات الرقمية أو أي مجال آخر.
-ادعاءات توظيف الأموال ،وفيها يتم إغراء الناس بالإسهام في مشاريع مربحة، ثم يتضح لاحقا أنها وهمية أو ما زالت على الورق أو لا ينوي أصحابها إكمالها.
– تطبيقات الاحتيال على جمع الأموال من المواطنين المهتمين بتوفير العمل إلكترونيا، مثل تطبيق “أوميجا برو”، غيره.
– المشاريع الخيرية، حيث يتم استقطاب أموال المحسنين “بما فيها أموال الصدقة والزكاة” بذريعة إنشاء مشاريع خيرية ودينية.
ويتضمن الاحتيال الإلكتروني توظيف كافة تقنيات العصر عبر الإنترنت، والإيميلات، والاتصال الهاتفي، والإعلانات الإلكترونية، والمواقع الوهمية وغيرها.
ومن الصور والأنواع الاحتيال بغطاء قانوني، فالقانون لا يحمي المغفلين، والضحية في هذه الحال تتحمل مسؤولية التورط في مشروع فاشل، أو صفقة خاسرة، أو شراكة ظالمة تتم خلال عقد ماكر أو اتفاقية ملزمة رسميا.
وفي هذا الشأن ذكرت تقارير وإحصاءات تشير إلى أن 77٪ من عمليات الاحتيال تحدث الآن على وسائل التواصل الاجتماعي والأسواق الإلكترونية وتطبيقات المواعدة.
كما أشارت التقارير إلي أن الزيادة الملحوظة كانت في حالات انتحال الشخصية والاحتيال في الاستثمار والشراء ، ووجد أن عمليات الاحتيال عبر انتحال الشخصية على تطبيق واتساب قد تضاعفت ثلاث مرات في غضون عام، بينما تضاعفت القوائم المزيفة عبر سوق “فيسبوك”!.
وأيضا هناك تحذيرات مستمرة من معظم البنوك العامة والخاصة من زيادة كبيرة في عمليات الاحتيال خلال السنوات الأخيرة إذ ظهرت الكثير من هذه العمليات عبر الإنترنت.
وفي تقرير لاتحاد البنوك الأوروبية تضمن 200 طريقة شائعة لسرقة حسابات العملاء وبيانتهم البنكية، والرقم لن يتوقف عند هذا الحد لكون المحتالين لا يتوقفون عن ابتكار المزيد، ومواكبة الجديد، والظهور بوجه فريد ،فطبيعة الاحتيال ذاتها تتطلب التغيير والتبديل والتطور لتجاوز خبرات الضحايا القديمة وبرامج الحماية الجديدة.
كما حذّر “دميتري غالوف” الخبير الروسي في أمن المعلومات، والمبرمج في شركة “كاسبيرسكي”،من بعض الأساليب التقنية التي باتت تستخدم للاحتيال على الناس في السنوات الأخيرة.
ومن أبرزها أن يقوم أحد المحتالين بالاتصال بضحيته وينتحل شخصية موظف في المصرف الذي يتعامل معه المستهدف، ويطلب منه معلومات تتعلق بالبطاقة المصرفية بحجة إيقاف معاملات مالية مشبوهة، وبعد حصول المحتال على بيانات البطاقة يقوم باستغلالها لسرقة وتحويل الأموال إلى حسابات تخصه.
وأشار “غالوف”: “هذه الطريقة من الاحتيال انتشرت على نحو واسع في روسيا عامي 2013 و2014، لكنها عادت للظهور بوضوح خلال الآونة الأخيرة، وبات المحتالون يملكون الكثير من البيانات المصرفية للضحايا، وربما تعلموا استغلال تلك البيانات بشكل أكبر من قبل”.
وهناك طريقة يتبعها بعض المحتالين تحدث عنها “غالوف”، هي عندما يرسل الأشرار لضحاياهم رسائل معينة تطلب منهم تحويل مبالغ مالية صغيرة كرسوم اشتراك في سحب على جوائز ذات قيمة مادية كبيرة، وتقوم الضحية بتحويل الأموال للمحتال بملء إرادتها.
كما نوه لبرمجيات “الفدية” التي انتشرت على نحو واسع على مر السنوات الثلاث الفائتة، والتي تخترق أجهزة الضحايا وتسيطر عليها، وتطلب من الضحية تحويل مبالغ معينة للمخترقين.
ومما يدعونا إلي الحيطة والمزيد من الحذر هو أن طرق الاحتيال أصبحت تتم اليوم تحت غطاء الخدمات الإلكترونية التي تميز حياتنا العصرية، فلم تعد هناك عصابات تسرق البنوك “كأفلام الكاوبوي” بل محتالون يعملون من غرف النوم ويكتفون بحساباتك وأرقامك السرية.
ورغم أنهم لا يخدعون معظمنا، ما زالوا قادرين على اصطياد شخص أو شخصين حين يراسلون عشوائيا “آلاف الناس”. وأنت مثل الكثيرين تعتقد أنك محصن ضد عمليات الاحتيال حتى تصبح الضحية وتتعجب كيف غفلت عن مؤشرات الاحتيال القوية، وحتى حين تتعلم الدرس بطريقة قوية لا تضمن عدم تعرضك لمحاولة نصب تالية بسبب تطور الطريقة والأسلوب والإغراء الجديد.
ولعل النموذج الصادم للاحتيال الرقمي خلال أوائل هذا الشهر هو تورط آلاف المصريين والعرب في عمليات مضاربة عبر منصة “هوجو” في عمليات نصب من منصة تدعى “Hoogpool” للاستثمار والأرباح، تهدف إلى الاستثمار وتعدين العملات الرقمية، بعد أن زعمت أنه يمكن لأي شخص الربح من الأموال عن طريق الهاتف أو الكمبيوتر.
وبلا جدوي استغاث المئات من المستخدمين على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة بمسؤولي الشركة ووكلائها المعتمدين، مؤكدين سرقة مبالغ مالية كبيرة لم يتم حصرها حتى اللحظة، قدرها البعض بعدة مليارات، زاعمين أنهم وقعوا ضحية للنصب بالاستثمار من قبل تلك المنصة، كما أنهم لا يعرفون الطريقة المناسبة لاسترداد هذه المبالغ مرة أخرى، وتواصل الجهات الامنية المختصة التحقيق في هذه القضية.
وفي محاولة لإقناع العملاء نشرت “هوجو” عددا نماذج من العمليات الناجحة لبعض عملائها الذين قاموا بالاستثمار كنوع من الوفاء بالوعد وتحويل مبالغ مالية لحساباتهم.
كما أظهرت منشورات أخرى عددا من الشهادات التي تدعي حصول الشركة على شهادات مهنية في مجال “تعدين البيتكوين” ،وادعت تأجير عدد من الماكينات والآلات الخاصة بتعدين البيتكوين، وعرضت على المستخدمين الاستثمار في مثل هذه الماكينات مع عدد من الخيارات للأرباح حيث توفر خيارات تبدأ من مبلغ 10 دولارات إلى 50 دولارا، مع فوائد ربحية تبدأ من 5 – 6 دولار في اليوم .
كما أفادت بأنها توفر رابطا للتسجيل للدخول على الموقع الخاص بها والذي يتطلب البيانات الشخصية الخاصة بك للتسجيل ثم تأكيد رقم الهاتف من خلال رسالة ثم إدخال كود التحقق. ووعدت بالحصول على أرباح بالدولار من خلال سحب الأموال من خلال عدد من النقاط التي تقوم باستبدالها، حيث تستبدل كل 100 نقطة بدولار واحد، ويأتي مبلغ السحب في فترة تتراوح من يوم لـ 3 أيام.
ويذكر أن “Hoogpool” ظهرت في شهر أغسطس 2023، وأتاحت موقعا إلكترونيا، يسمي هوج وهو تطبيق على “سوق بلاي مصر”، كان يحمل اسم Hogg، وله رخصة سجل تجاري مصري.
واتقاء لشرور ومقابح هذا الزخم الالكتروني .. حكم عقلك أولا ، فالعوئد الخيالية والأرباح المبالغ فيها ما هو إلا “شراك” مقنعة ومؤشر للطريق الخطأ وجرس إنذار لمن أراد تدبر الأمور بتعقل وحكمة.
ورغم كثرة طرق الاحتيال يظل “وعيك” و”حذرك” ،و”شكك” “وعدم تجاوبك” أهم خطوط الدفاع ،حتى ضد ما لم يتم ابتكاره حتى الآن.
وإلي كل من أراد أن يستثمر ما لديه من مال ،مهما قل أو أكثر فعليك بالقناعة بالرزق والمكسب الحلال العادل ،وإن كان أقل بطبيعة الحال من أرباح غالبية المنصات والأوعية الاستثمارية المشبوهة.
كما أتصور أن اللجوء إلي تحويل الاموال واستثمارها عبر قنواتها الشرعية الرسمية عبر البنوك المصرية بما تقدمه من أوعية ادخارية واستثمارية وصناديق وسندات خزانة وغيرها هي الملاذ الآمن ،وخاصة بعد رفع معدلات الفوائد الربحية علي مختلف أنواع الشهادت والأوعية الإدخارية وإتاحة بدائل متنوعة في الآونة الأخيرة، بعد قرار تحرير سعر الصرف ،واتخاذ إجراءات فاعلة لمحاصرة السوق السوداء.
وإضافة إلى أنها توفر عنصر الأمان لصغار وكبار المستثمرين ،فأنها تقضي علي الأسواق الموازية للاتجار في العملات المختلف ، كما أن هناك إلتزام وطني وأخلاقي تجاه أرض الكنانة للإسهام في إصلاح المسار الاقتصادي وتجنب صدمات وتأثيرات المضاربات غير المشروعة والمتغيرات الاقتصادية الأممية المتصاعدة، وحصار التضخم ودعم المشروعات التنموية المستدامة..
وهو واجب علي كل المصريين سواء المقيمين في أرض الكنانة أو بالخارج.
والخلاصة أن هناك ضرورة مجتمعية ملحة لتعزيز الوعي الاجتماعي العام تجاه مسالب هذه الظاهرة بالغة الخطورة ، والوقوف وتعضيد جهود الدولة والأجهزة الامنية المعنية بمكافحة مختلف صور الابتزاز والاحتبال ،ونشر ثقافة الاستثمار الآمن عبر قنواته الشرعية.
وهي مسؤولية مجتمعية ووطنية لمختلف روافد ومنصات قنوات الإعلام الرسمية والخاصة ،وفي سياق الرسالة التوعوية ،والإعداد التربوي لاننسي دور المؤسسات التعليمية وعلي رأسها المدارس والجامعات ومختلف مؤسسات وهيئات المجتمع المدني..والهدف الأسمى حماية الوطن والمواطن..والله المستعان.