»»
من أسوأ آفات ومفرزات عصر “المادة والرقمنة” ،أوكما يطلق عليه البعض عصر المسيطرين والمؤثرين ،التخلي عن القيم الإنسانية والأخلاقية الثابتة التي تتواءم مع الفطرة الإنسانية وتتجاوز حدود الزمان والمكان ،والتي لا ينكرها إلا من يتعمد إنكار ضوء الشمس من رمد ،وطعم الماء من سقم.
وكما أن هناك أياد تعمل بجد وإخلاص،وأفئدة بيضاء ،وعقول مستنيرة شغلها الشاغل تحقيق جودة الحياة،وبناء وتنمية الإنسان بمفهوم مستدام وشامل ،لتقديم كل ما يسعد أهل المعمورة ،فهناك قلوب سوداء تجردت من المشاعر ،وعقول جامحة تحكمها قناعات فاسدة تخطط لإهدار الموراد وغبن حقوق الأجيال القادمة .
كما تقيم المستجدات والمتغيرات من منطلقات ذاتية ،ومن منظور ضيق وتفنن في تقديم كافة ألوان الهدم والدمار الوجداني والمادي بغية تحقيق مآرب خاصة،ولو علي حساب رقاب العباد،وربما سرقة مفهوم الحياة بكافة تفاصيلها ومقوماتها!.
ومع تراجع حقوق الانسان في مختلف بقاع الدنيا ،والذي تزامن مع تفاقم المعضلة البيئية ،وتزايد تداعيات التغيرات المناخية، فإن أصابع الاتهام ،كما يعلم الجميع تشير من جديد ،وكما أشارت من قبل إلي الدول الصناعية الكبري وعلي رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وذيولها وأنصارها من الكبار الملوثين ،ومن بيدهم القوي الفاعلة في إدارة شؤون الدنيا بفعل الهيمنة علي مفاصل القوي الاستراتيجية والاقتصادية.
ولا فرق بين كبار القوم في المعسكر الغربي أو الشرقي فيما يتعلق بالمواقف البيئية الرافضة للتخلي عن التصنيع الكثيف ،تراكم الإنتاج وعن الإنتاج اللامحدود وعن الوقود التقليدي ،حتي لو تم افناء الكون بمن فيه، وبصفة خاصة الدول والكيانات الناشئة ،او كما يطلقون عليهم عالم المتفرجين الصامتين المستهلكين!.
وربما الفارق أن معسكر الشرق في تقييم المسألة الإنسانية والأخلاقية، فما تزال دول الشرق الحالمة بنظام عالمي جديد ترتدي قناع وبرقع الحياء إلي حد كبير ،في حين تخلي الغرب عن الإطار القيمي الذي يحدد طبيعة وأنماط التعاون والعلاقات بين الدول ،رغم ما يرفعه طوال الوقت من شعارات زائفة للحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والانتقال الديمقراطي!.
وما بين الأمس واليوم ،ضمن السياسات المتناقضة ،يحرص قادة الغرب وممثلوهم علي المشاركة في كافة فعاليات الأمم المتحدة المتعلقة بقضايا البيئة والمناخ والتنمية المستدامة، اعتبارا من قمة الأرض بتبليسي في جمهورية جورجيا السوفيتية عام 1972، ومرورا بقمة ريو دي جانيرو بالبرازيل 1992، وما تبعها من مؤتمرات وأشهرها مؤتمر باريس للمناخ عام 2015.
كما تعهدوا بتقديم الدعم اللامحدود ودفع فاتورة تجنب آثار التلوث ،لكن السياسات الفعلية علي أرض الواقع تخالف هذه المواقف جملة وتفصيلا !.
ولعل النموذج العصري المشهود لعالم المتناقضات ، نجده واضحا جليا في إصرار إسرائيل علي انتهاك حقوق الإنسان والبيئة، وتدمير كافة مظاهر الحياة الإنسانية ،دون رد فعل دولي حاسم سيظل علامة فارقة وإدانة مشينة في حق المجتمع الدولي وتحديدا دول الغرب ،وحتي إشعار آخر!.
وكما رسبت دول العالم الفاعلة في العديد الاختبارات البيئية من قبل بعد حصاد محدود الأثر ل 27 مؤتمر وقمة استهدفت معالجة تبعات المناخ والتغيرات، فقد رسبوا في عشرات الاختبارات الإنسانية والأخلاقية ، حتي جاء اختبار حرب غزة خير شاهد ودليل ،مع عجز المجتمع الدولي عن اتخاذ قرارات فاعلة لوقف هذه المذاهب اللانسانية التي لطخت جبين بني البشر بالخزي والعار بهذه الممارسات الصهيونية الوحشية التي فاقت كل حدود العقل وانتهكت الحدود الدنيا للإنسان في هذا الزمان!.
وعبر مراحل متفاوته من الصراعات الوجودية والمناطحات السياسية كل المعطيات تؤكد إهمال الدول الصناعية الكبري لملف حماية البيئة والمناخ ، رغم ما يتشدق به قادتها من تعهدات لتحمل تكلفة الأضرار البيئية ومواجهة آثار التغيرات المناخية!.
وفي هذا السياق انتهي مؤخرا مولد قمة المناخ COP28 ، بعد أن شهد جدلا واسعا ونقاشات مضنية وخلافات حول إقرار صيغ مقبولة وملزمة للتعهدات والاتفاقيات الأممية.
وبعد أن بلغت القلوب الحناجر دون التوصل إلى اتفاق نهائي ، لاختلاف المصالح وتضاربها تم التوصل إلى مجموعة من القرارات التي تبدو مهمة رغم ما تضمره النوايا ،حيث تم الاتفاق للمرة الأولى على تدشين “صندوق الأضرار والخسائر” قيد التنفيذ وتمكن المؤتمر من رصد نحو 83 مليار دولار في هذا الشأن ،و”أفلح القوم إن صدقوا في وعودهم”!.
كما تم الموافقة على انشاء صندوق “الحلول المناخية” الذى سيركز على قضايا التغير المناخي ومشكلاته والتوصية بزيادة القدرة الإنتاجية للطاقة المتجددة.
أما المشكلة الأساسية وهى مشكلة الوقود الأحفوري وسبل التخلص أو الحد من استخداماته فقد كانت مصدرا للخلافات الأساسية بين الدول ،وكان هناك عدة آراء.. الرأي الأول طالبت به الأغلبية وهو النص على التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري خلال فترة محددة ،وفى المقابل كان هناك رأى آخر يدعمه دول التصنيع المكثف بالاستمرار في استهلاكها، بدون قيود ثم طرح البعض التوفيق بين الرأيين وهو التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري بدون وضع جدول زمنى محدد وقوبل بالرفض! ثم جاء التوافق المبدئي على فكرة التحول عن الوقود الأحفوري بطريقة عادلة ومنصفة للجميع وتسريع العمل وفقا لهذا المبدأ وتم الموافقة على التحول بطريقة عادلة وتدريجية وحتي عام 2050.
هذا ما تم التوصل إليه،ويري بعض الخبراء والمحللين أن هذا النص يمنح فرصا واسعة للمناورة وربما للهروب من التعهدات قبل العام 2050، لأنه لم يحدد نسبا معينة، وفقا لبنود وإجراءات ملزمة!.
وما بين التفاؤل الحذر والتشاؤم المظلم تظل قضية المناخ، بأبعادها ومحاورها المتشابكة مرهونة بإرادة الدول الكبرى في اتخاذ خطوات فاعلة نحو “هدنة بشرية دهرية”، قد تمتد لعشر سنوات أو أكثر بهدف تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري ولو بنسبة 50% ،وتوظيف الطاقات المتجددة النظيفة كبدائل عملية منعدمة الانبعاثات الكربونية.
هذا إلي اتخاذ إجراءات نحو تحجيم الإنتاج والتصنيع ، ومن ثم وتقليص حجم الانبعاثات والملوثات ولو بصفة مؤقتة..
وبعيدا عن المؤتمرات وفكرة المواقف الدبلوماسية والكلمات المنمقة والتعهدات الدولية الشكلية التي تذهب أحيانا أدراج الرياح،ولا تأخذ طريقها إلى دنيا الواقع،فإن الضمير الإنساني المعطل يجب أن يتحرك قبل فوات الأوان لتدارك كافة الخطايا وتجنب المزيد من الأخطار في عالم واحد ،وقلوب شتي !!