»»
أنجبت محنة فلسطين عبر سنوات طويلة من الصمود رموزا ،احترفوا النضال ،كل في موقعه، الأديب والإعلامي والعالم والطبيب والمعلم والمجاهد وأصحاب مزارع الفواكه والزيتون، اتفقوا جميعا علي غرس الأمل ،وصناعة الأبطال وإنتاج خامات فريدة من الرجال .
وما بين الأمس واليوم قواسم وثوابت لا تتزعزع قيد أنملة، هم باقون في مواقعهم.. شامخون كالأشجار العريقة،وبيوت أهل القدس العتيقة ،لتحكي لدنيا الناس ، حكاية الصمود والأمل ،وقصة المقاومة رفضا للظلم والتضييق والاستيطان وإستنكارا صريحا ضد محاولات التهجير القسري، تغيير الهوية العربية الأصيلة للقدس ولكل بقعة من بقاع أرض فلسطين الحبيبة.
وستبقي عبقرية المقاومة بالكلمة والفعل ،بالقلم والسلاح أدبيات راسخة كالشم الرواسي ، نتاج غرس مبدع لشعب يريد الحياة ويتمسك بالأمل والحرية ولو بعد حين.
لقد حاول الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني مرارا اغتيال الحلم ووأد فكرة المقاومة بكافة صورها..لكن هيهات وبعدا للقوم المغتصبين المارقين عن طريق الحق والعدل الحالمين بوطن زائف، كتب عليه الزوال بالوعد الحق ولو كره الكارهون .
لقد أحيا أبناء فلسطين بوحدتهم فكرة المقاومة الباسلة والصمود والنضال الابدي ،والهدف الأسمي هو تحرير الأرض،ومن قبلها الحياة بعزة وكرامة.
وعبر هذه السطور نعرض لمحطات مضيئة
وناصعة البياض لنموذج المقاومة بالكلمة والقلم ..
إنه الأديب والصحفي والكاتب الروائي غسان كنفاني،الذي تصدي بكتاباته لمخططات التهجير القسري ولمحاولات الصهاينة الدؤوبة لتفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها وتشريد أبنائها ،ولكافة المحاولة اليائسة لكسر عزيمتهم وبث روح القنوط من التحرر من نير الاستعمار الصهيوني البغيض..
ولا عجب أن يلقي ربه شهيدا عبر عملية غادرة لاغتياله.. لكن أعماله ورسائله وأقوال ما تزال حتي اليوم نبراسا لأجيال الكفاح والنصر والشهادة.
استشهد كنفاني يوم 8 يوليو عام 1972 ، بانفجار سيارة فخخها عملاء إسرائيلون في بيروت، وكانت بصحبته ابنة أخته لميس نجم التي لم تتجاوز في ذلك العام عمر ال17.
ورغم حياته القصيرة، لكنه أصدر أكثر من 18 كتابا، و كتب عدد لا يحصى من المقالات. إضافة إلى إرثٍ روائيٍّ غير مكتمل.
ولما ذهب كنفاني إلى بيروت عام 1960، فقد وجد فيها مجالًا أدبيا رحبا ومنابر لتوصيل رسالته.
وبدأ العمل في مجلة “الحرية”، كما كان يكتب مقالا أسبوعيا لجريدة ‘لمحرر”، ولفتت مقالاته النظر إليه بعمقها، وأشاعت الحماس تجاه القضية الفلسطينية، كما أصبح كنفاني مرجعا لكل المهتمين والمناصرين لهذه القضية.
غاصت كتابات كنفاني التي كانت من الناس وإليهم، فغاص في أعماق الإنسان الفلسطيني بعد النكبة والنكسة وما قبلهما، كما تنبأ بالقادم، وأخرجه بإبداع ريشة الفنان ومهارة وحرفية الكاتب.
في روايته “عائد إلى حيفا” عام 1970، رصد ما رواه مواطنو حيفا عن رحلتهم نحو عكا ،وكان لا بد من أن تترك رحلته الخاصة نحو بلد اللجوء تأثيرها على غسان، فقد حضرت ذكرياته تلك في روايته “أرض البرتقال الحزين” عام 1963.
كان كنفاني كتلةً من الحيوية و النشاط، فقد فاقت ساعات عمله العشر ساعات يوميا ، وظهرت عليه بوادر مرض السكر والنقرس في عمرٍ مبكرٍ ،فكان ذلك يُدخله المستشفى أياما، لكنه ،و من على سرير المرض، تأمل عقله كل ما حوله، وأبى إلا أن يخرج منه بتجربة فكتب رواية “موت سرير رقم 12” عام 1963.
شعر كنفاني بضياع الفلسطينين قبل غيره بكثير، وبتحول قضيتهم إلى قضية حياةٍ يومية أصبح الفلسطينيون يعيشونها تحت سطح لقمة العيش عوضًا عن العمق الذي أودى بهم نحو هذا السطح، فعمل جاهدا لبقاء القضية في القلوب رغم مرضه ،وشدة المصاعب وقسوة التحديات.
ولما عاد كنفاني إلى دمشق قادما من الكويت في شاحنةٍ قديمة، وكان للصحراء التي عبرها تأثيرها الكبير عليه، وهو واحد من بين شعب بأكمله كُتب عليه سِفر الضياع ، فجاءت رائعته رواية “رجال تحت الشمس” عام 1963. وهي الرواية التي أصبحت فيلما سينمائيا حمل عنوان “المخدوعون”.
عرف غسان أن لامناص من الكفاح، وأن لا برّ للفلسطينين سوى سواعدهم. فألحق رواية “رجال تحت الشمس” برواية “ما تبقى لكم”. ونرى فكر كنفاني واضحا صريحا ناضجا بالفكرة في روايته “عالم ليس لنا” عام 1965.
وللأم الفلسطينية مكانةٌ عند كنفاني فهي “التي تقف الآن تحت سقف البؤس في الصف العالي من المعركة” كما جاء في روايته “أم سعد” عام 1969.
ومن روايات كنفاني الأخرى”الشيء الآخر” التي صدرت في بيروت بعد استشهاده، وأيضا رواية”القنديل الصغير”.
وله عدة مجموعات قصصية من وحي القضية والنضال “عن الرجال والبنادق” عام 1968، “القميص المسروق” عام 1958.
والمجموعة القصصية “عالم ليس لنا” عام 1970.
المجموعة القصصية “الشيء الآخر” عام 1980 ،نُشِرَت بعد وفاته.
وللمسرح حضورٌ قوي في أدب كنفاني، ومن أهم مسرحياته ” الباب” و”القبعة والنبي” و”جسر إلى الأبد”.
كتب كنفاني العديد من البحوث الأدبية، جاء معظمها على ارتباط وثيق بالقضية الفلسطينية، فهو أول من كتب عن شعراء فلسطين، وصدرت كتاباته في كتاب له حمل عنوان “شعراء الأرض المحتلة” كما أنه أول من كتب عن الأدب الصهيوني عن كثب.
وله مقالاتٌ كثيرة سواء باسمه الحقيقي أو تحت أسماء مستعارة منشورة في العديد من الصحف والمجلات.
ولم تمهله أيام عمره المعدودة ليكمل فيض إبداعاته، فقد كانت له روايات لم تكتمل منها “الأعمى” و”الأطرش” و”العاشق” و”برقوق نيسان”.
نال كنفاني جائزة أصدقاء الكتاب في لبنان، عن روايته “ما تبقى لكم” وذلك عام 1966. أما ما تبقى من جوائز، فقد مُنحت لاسمه بعد استشهاده، وأهمها جائزة منظمة الصحافة العالمية عام 1 1974، وجائزة اللوتس عام 1975. كما مُنح وسام القدس عام 1990.
انتقلت روايته “عائد إلى حيفا” إلى الشاشة الصغيرة عبر مسلسل سوري أخرجه باسل الخطيب.
ومن أقواله غسان كنفاني:
– إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية.. فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغير القضية.
– إن الصمت هو صراخ من النوع نفسه. أكثر عمقا، وأكثر لياقةً بكرامة الإنسان.
– كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقا صغيرا يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود.
– يسرقون رغيفك .. ثم يعطونك منه كِسرة .. ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم .. يالوقاحتهم.
– إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت..إنها قضية الباقين.
رحم الله غسان كنفاني وتقبله وجميع شهداء مصر وفلسطين والعرب في جنات الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا..
ويبقي الأدب برمزية وبخيال الأديب مرآة صادقة لما يموج في الأوطان من أتراح وأفراح، راصدا همومه وتطلعاته نحو غد أفضل.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.