»»
وفي ظلال التكدس الدرامي الرمضاني المعهود، لا عجب أن نسمع الكثير من الجعجعة، والقليل من الطحين للحصاد المثمر.
ورغم تراجع جودة الأعمال بكافة محدادتها نصا وإخراجا، وأداء لكن الدراما المصرية في طريقها للتعافي، واستعادة مرتبة الصدارة وزمن الفن الراقي الجميل.
وتظل حرفية السرد الاجتماعي، والكتابة الدرامية الرصينة المستقاه من حياة الناس، وحكايات الواقع بأفراحه وأتراحه هي الضمان الأول لنجاح العمل الفني، وتقديمه في إطر وسياقات قيمية تحصن المجتمع من تداعيات العلاقات المتوترة بين الزوجين، وإتقاء شرور دعوات تسميم الأجواء وغرس النزاعات بين جدران الأسرة خلال السنوات الأخيرة، التي يروج لها بعض المرجفين!.
وما تزال العلاقة بين الرجل والمرأة محور العديد من الأعمال الأدبية والفنية المتميزة، وما تزال معالجات فكرة الوفاء بين الزوجين تثير الكثير من المراء، والجدل بين التركيز علي عرض النماذج السلبية، لتحقيق أكبر قدر من الإثارة والغموض، والتشويق، ومن ثم زيادة نسبة المتابعات والمشاهدات، وغياب النماذج الإيجابية في سياق الدور التربوي للدراما الهادفة!.
ووسط الزخم الكبير وزحام موسم المسلسلات أثار مسلسل “نعمة الأڤوكاتو” الكثير من الاهتمام والجدل بعد أن حقق معدلات عالية من المشاهدات، ووصل إلي “التريند” في حلقاته الأولي.
المسلسل من بطولة مي عمر، وأحمد زاهر، وأروى جودة، وكمال أبورية، وسلوى عثمان، وسامي مغاوري، من تأليف وإخراج محمد سامي.
وتدور أحداث مسلسل “نعمة الأڨوكاتو”، من قلب أحد الأحياء العتيقة بالقاهرة، حيث تنطلق المُحامية الشابة «نعمة» لتتولى مهمة الدفاع عن المظلومين والمقهورين الذين يبحثون عمن يمد إليهم يد العون والمُساعدة، حيث تتأرجح حياتها بين مُساعدة البسطاء في القضايا العامة وبين الدفاع عن حقوقها الشخصية تجاه زوج يُمارس عليها أقصى أنواع الضغوط ولا يتحمل مسؤولياته.
وتحكي نعمة لأهلها محاولة زوجها صلاح وعشيقته سارة لقتلها، وبفلاش باك تتحدث نعمة عن براعتها في المحاماة وفشل زوجها في عمله وتوليها نفقات البيت، وتحصل على مبلغ كبير نظير فوزها ببراءة ابن كمال الثري.
كما تتحدث «نعمة» مع زوجها عن موضوع الإنجاب، إلا أنه يرفض مواصلة الحديث في ذلك الموضوع، ويطلب منها التأني وعدم إهدار الملايين التي حصلت عليها.
وملخص الحكاية تساند المحامية الماهرة “نعمة” زوجها المتعثر الفاشل في إدارة شؤون.. حياتهما، وتساعده بشتى الطرق، لكنها حين تكتشف خيانته لها، توظف خبرتها وحنكتها في سبيل استرداد أموالها والانتقام منه، وتتابع الأحداث.
وفي تقديري أن أهم إيجابيات العمل تقديم نموذج مثالي لشخصية المحامية المرأة الماهرة التي تنحاز للفئة المهمشة، وتسهم في جلب البراءة وإقرار صوت الحق والعدل، ولكفاءة “نعمة” يأتي التعويض في صورة استعانة أحد رجال الأعمال لجهودها لإثبات براءته بعد أن عجز فريق الدفاع عن القيام بهذه المهمة ثم تأتي العشرة ملايين الأتعاب المتفق عليها، منبع النقمة لنعمة !.
وتتوالي الأحداث بموقف نبيل لنعمة مع زوجها صلاح حيث منحته “عطية” بصورة غير مباشرة، بلغت ثمانية ملايين دفعة واحدة وفي محاولة للحفاظ علي شعوره وكبريائه، وفقا لمفهومها اتفقت مع محاميها وأستاذها والذي تعتبره كوالدها علي إعطاء زوجها هذا المبلغ وكأنه أمواله القديمه المحتجز عليها.
وتبتسم الدنيا لزوجها مرة أخري وتعود له أمواله “الأربعة عشر مليونا” بعد أن راوده الشك في أن “نعمة” اقتنصت لنفسها ولأبيها جزءا من أمواله!
وفي لحظات تضيع قيم العشرة والوفاء، ويتراجع الحب ويصغر ثم يتلاشى، ويبدأ صلاح بمساعدته سارة حبه الجديد في التفكير مليا للتخلص من “نعمة” للأبد وتفشل الخطة وتعود “نعمة” للحياة من جديد لتبدأ رحلة الانتقام.
وبالتفتيش قليلا في أرشيف الدراما المصرية نجد أن جزءا من السيناريو، والأكثر إثارة وتشويقا مكرر بنسخة الكربون من فيلم “الزمن والكلاب” إنتاج عام 1996 ، تأليف طارق عبدالجليل، بطولة نور الشريف ودلال عبدالعزيز وحسن حسني، وأبو بكر عزت، إخراج سمير سيف.
حيث يتخلص بطل الفيلم من حبيبته”هانم” ويستدرجها ويقتلها، هربا من الارتباط بها، ومن جريمة قتل ارتكبها بدون قصد، وطمعا في أموال الضحية “الدكتور”،
وبمساعدة صديقه “التربي” يقوم بدفنها، والذي يكتشف بدوره أنها ما تزال علي قيد الحياة..وتتابع أحداث الفيلم وتبدأ رحلة الانتقام كما هو الحال في “نعمة الأڤوكاتو”.
وأتصور أن منطقية فكر المحامية الواعية “نعمة” من المفترض أن يجعلها تحتاط لنفسها وأن تحافظ علي ذمتها المالية المنفصلة، وكان بإمكانها مساعدة زوجها للخروج من أزماته عن طريق إقامة مشروع استثماري وشراكة وفق معايير وإجراءات ضامنة للحقوق والواجبات.
كما أن المبالغة في فكرة الجريمة والعنف بين الزوجين أمسي وسيلة للإثارة وجلب المشاهدات، وربما يبتعد قليلا عن توصيف الواقع كما أنه لا يعبر تعبيرا صادقا عما يحدث في المجتمع بهذا الانحراف القيمي الجامح بسبب تسلط القيم المادية وشهوة المال.
وقد نجحت الفنانة مي عمر “نعمة” بأداء متميز في كسب تعاطف المشاهدين، لكن المبالغة في رد الفعل والاتجاه نحو الانتقام عاد بنا من جديد لسردية الظالم والمظلوم، والتي عالجتها العديد من الأعمال الدرامية.
وفي اعتقادي أن محاولات خلق علاقات مشوه، ومتوترة، ومريبة في السنوات الأخيرة وتصوير الحياة الأسرية وكأنها صراع أبدي وحرب ضروس، هو أمر يتطلب المراجعة والتدقيق والتصحيح.
وأتصور ضرورة تركيز البناء الدرامي علي إبراز العلاقات الزوجية الناجحة والنماذج التي تنعم بالحياة السعيدة والسكن والمودة والرحمة.
وتبقي الخبرات الحياتية، باعتبارها كتابا مفتوحا، ومن قبلها القيم الدينية التي حفظت للمرأة كرامتها وحقوقها وذمتها المالية المنفصلة، وارست قواعد حياتها قبل وبعد الزواج، بعيدا عن كل المطامع، ستبقي هي الفيصل نحو إقرار علاقات زوجية متوازنة بعطاء وجداني بلا حدود ومادي محدود، إتقاء لتقلبات الأيام ولصروف الدهر المتغيرة!.