»»
حين يتجاوز الواقع خيال الفلاسفة والأدباء، فاعلم أن البشرية تسير في مسار إجباري حاكته قوي خفية ومعلومة لدي الجميع نحو الأسوأ، حيث الدمار الوجداني والتخلي عن القيم الإنسانية تدريجيا في رحلة اللاعودة وصراع النفعية والهيمنة والنفوذ!.
ورغم مرارة المحنة الفلسطينية وعمق الجراح سيظل الأدب بكافة ألوانه وقوالبه التعبيرية وبكافة إطره الرمزية والواقعية، مرآة صادقة لما يموج به من أحداث وهموم وأتراح وقليل من الأفراح، التي حتمتها إرادة الحياة لقلوب تنبض بالأمل، والتفاؤل، والثقة بنصر الله ووعده الحق إلي أن يرث الأرض ومن عليها!.
وستظل مأساة التغريبة الفلسطينية، والإصرار علي تشريد أهلها وإبادة كافة مظاهر الحياة محطة فارقة وبقعة حالكة السواد في جبين كل المتخاذلين والمتواطئين، والمتفرجين والصامتين، ولن يذكرهم التاريخ إلا بما يستحقونه من ذم وقدح بماقدموا من غبن وتخاذل وشرور.
كما ستظل مأساة غزة منبعا ملهما تتباري فيه أقلام المبدعين لكتابة سطور خالدة عن حكايات الدماء الطاهرة وقصص الشهداء وصمود الأحرار ، وفصول ملحمة النضال المستدام، كما تتنافس في تجسيد نموذج العار البشري اللامسبوق، الذي يتبرأ من صوره ومآسيه كل حر، ومن كان لديه قلب إنسان.
وفي انتظار من يكتب “التغريبة الغزاوية” لتضيف جديدا من صروح المعاني والرسائل لمن يهمه الأمر عسي أن تستيقظ الضمائر الفاعلة يوما من غفوتها لتصحح خطايا بني البشر، وتعود النفوس لفطرتها الأصيلة التي لا تعرف إلا قيم العدل والخير والجمال.
ومن غزة إلي بلدة “طنطورة” نعود بالذاكرة مع الأديبة الراحلة رضوي عاشور لنعايش أهم أعمالها المشهودة، التي جسدت نكبة أهل فلسطين منذ عام 1948 مع روايتها الخالدة “الطنطورية”.
صدرت الرواية عام 2010، عن دار الشروق المصرية، وتسرد الرواية سيرة متخيلة لعائلة فلسطينية، منتسبة إلى قرية “الطنطورة”، بين سنتي 1947 و2000، تم اقتلاعها من أرضها بعد اجتياح العصابات الصهيونية للقرية، لتعيش تجارب اللجوء في لبنان والإمارات ومصر.
وتقع قرية الطنطورة على الساحل الفلسطيني جنوب حيفا) ، وقد تعرضت هذه القرية عام 1948 لمذبحة على يد العصابات الصهيونية، تتناول الرواية هذه المذبحة كمنطلق وحدث من الأحداث الرئيسية، لتتابع حياة عائلة اقتلعت من القرية عبر ما يقرب من نصف قرن إلى الآن مرورا بتجربة اللجوء في مختلف الدول العربية.
وتمزج الرواية في سطورها بين الوقائع التاريخية من ناحية والإبداع الأدبي من ناحية أخرى.
هذه الرواية الملحمية رد عملي مقرون بالدلائل وبسرد الوقائع لمن تجرأ بوقاحة واتهم بعض الفلسطينيين بأنهم باعوا الأرض وتاجروا بالقضية، ولمن يحاول أن يصور اسرائيل كحليف استراتيجي، ويصور الشعب الفلسطيني بأنه إرهابي ولا يستحق له استرداد أرضه وكيانه.
وبطلة الرواية هي امرأة من القرية يتابع القارئ حياتها منذ الصبا إلى الشيخوخة، وفي 460 صفحة تحكي رضوى عاشور عن “رقية” وحياتها من طفولتها في قرية الطنطورية من 1948 وحتى صارت جدة.
تلك الفتاة رمز الصمود، التي بدأت حياتها برؤية أبيها وأخواتها مقتولين وسط أكوام من الجثث في مذبحة قريتها الطنطورية، ثم عايشت كل أنواع المذابح صبرا وشاتيلا وغيرها… مرورا بالقصف والحرب الأهلية بلبنان حيث هربت وتزوجت وأنجبت وعاشت هناك.
مرورا بأزمة الفلسطنيين في لبنان، مرورا بكل الحروب اللي تتخيلها ولا تتخيلها والقصف والمذابح وخسارة المعارف الواحد تلو الآخر.
وتتداعي الذكريات لإنسان جريح كيف يعيش وهو يشعر أن من يعاشرهم قد يفقدهم في أي لحظة تحت أي قصف مثلما يخاف الكاتب وهو يضع أوراقه في مهب الريح!.
إنها لحظة شعورية مؤلمة، فنحن هنا لا نتحدث عن فقدان شخص نحبه ولا فقدان وطن ولا فقدان إنسانية ولا فقدان هوية فقط، بل فقدان الحياة بكافة صورها ومعانيها .
ولعل أكثر المشاهد في هذه الرواية إيلاما وتأثيرا هو مشهد المذبحة في القرية، وهروب من نجا من الأسر الفلسطينية من بيوتهم وياللعجب أغلقوها بالمفاتيح.. ! واخذوا معهم مفاتيحهم، وقامت كل سيدة بوضع مفتاح دارها في سلسلة تعلقها في رقبتها ولا تفارقها أبدا..! فعلت هذا والدة رقية بطلة الرواية حتى ماتت ثم ارتدته رقية من بعدها قلادة المفاتيح ..
ثم يأتي مشهد النهاية لتضعه في رقبة حفيدتها رقية الصغيرة! فلديهم أمل عجيب أنهم سيعودون إلى ديارهم، ويجدون المفتاح يصلح لفتح باب الدار من جديد!
تحية تقدير لصاحبة العمل رضوى عاشور” رحمها الله الكاتبة والأستاذة الجامعية، والذي توزع إنتاجها بين الرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي والثقافي.
ولدت رضوى عاشور في القاهرة عام 1946، وتخرجت من قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1967، وحصلت على الماجستير في الأدب المقارن عام 1972 من الجامعة نفسها، ثم حصلت على الدكتوراة في الأدب الإفريقي الأمريكي من جامعة ماساشوستس بالولايات المتحدة عام 1975.
شغلت د.رضوى وظيفة أستاذ بكلية الآداب جامعة عين شمس، وانتخبت مقررة اللجنة العلمية الدائمة لترقية أساتذة اللغة الإنجليزية وآدابها في أقسام اللغة الإنجليزية وآدابها في الجامعات المصرية من عام 2001 _ 2008.
كما أشرفت على عشرات الرسائل الجامعية المقدمة لنيل الماجستير والدكتوراة، وقيمت عشرات الأبحاث المقدمة للحصول على درجة الأستاذية.
نشأت الكاتبة رضوى عاشور في فترة زمنية تخللها أحداث تاريخية وسياسية عميقة
من حيث السكن ورؤية الاحداث.
وشاركت في الحياة الثقافية العربية عبر كتبها ومقالاتها ومحاضراتها، وعبر انتمائها إلى لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، واللجنة الوطنية لمقاومة الصهيونية في الجامعات المصرية.
كما حصلت علي جائزة النقد العالمى فى الدورة الثامنة لجائزة «تاركينيا كارداريللى 2009» بإيطاليا، وجاء فوزها حسب لجنة التحكيم لأنها «وجه ثقافى مركب وآسر» مشيرة إلى إنتاجها فى مجال الرواية والقصة القصيرة، والنقد الأدبى والعمل الأكاديمى، وإلى مواقفها من قضية فلسطين وقضايا الحريات العامة وقضية المرأة، وإلى انحيازها لجميع القضايا العادلة، فضلا عن أنها واحدة من الشخصيات الفكرية المهمة فى مصر.
تزوجت رضوي من الأديب الفلسطيني مريد البرغوثي وشاركته الأفكار النضالية عبر قصة حب ووفاء نادرة، لهما ابن وهو الشاعر تميم البرغوثي وتوفيت يوم 30 نوفمبر 2014.
وأبحر العديد من الأدباء عبر دراسات وأبحاث ورؤي نقدية فى أعمال الكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور، مؤكدين دورها في إثراء الحركة الأدبية، وتطوير الرواية العربية.
كما رصد بعضهم ملامح الثراء الأدبي عبر روايتها “الطنطورية”، مع رصد المشهد والحوار الواقعي داخل الرواية وارتباط الكاتبة بالواقع الفلسطيني
المرتبط بها وبزوجها البرغوثي.
ومنهم من ربط بين الوضع الفلسطيني الحالي وحصار غزة، وجرأة الكاتبة في سردها الشيق والممتع في مجمل أعمالها.
كما تناول البعض صور الإبداع السردي، وربط بين أحداث رواية الطنطورية وأعمال الكاتب المصري الراحل محمود دياب، من حيث الواقعية، والاستعانة بأشخاص عاصروا الأحداث.
وتنتظر الساحة العربية مولد أعمال أدبية جديدة علي غرار “الطنطورية” ومن قبلها، “رجال في الشمس” للروائي الفلسطيني غسان كنفاني، و”التغريبةُ الفِلسطينية” للروائي وليد سيف، والذي أنتج كمسلسل دراما تاريخي سوري باللغة العربية واللهجة الفلسطينية، ويُعدُّ واحداً من أشهر ما أنتجتهُ الدراما العربية في تسليط الضوء على القضية الفلسطينية حسب العديد من النقّاد؛ كما نال المسلسل كثيرا من الجوائز من دول عربية مختلفة، وجرى تصويره بالكامل في سوريا عام 2004م، وبُثَّ للمُشاهد في نفس العام في 31 حلقة، طَوالَ شهر رمضان عام 1425 هـ، الموافق 15 أكتوبر 2004م.. ومعين الإبداع العربي لن ينضب أبدا طالما هناك أنفاس وقلوب تعشق الحياة والأمل ..وإنا لمنتظرون!