»»
مع تصاعد الأزمات الدولية بكافة أبعادها السياسية والاقتصادية والإستراتيجية من يظن أن الطريق ممهد ومعبد بلا عقبات، أو مفروش بالورود لدول “بريكس” لتحقيق كافة مبتغياتها في فترات وجيزة، وبلا معوقات فهو واهم، أو علي الأقل جانبه الصواب.
إن تدبر المشهد الراهن يتطلب المزيد، والمزيد من القراءة المتفحصة للوضع الأممي العام وتداعيات الأحداث الدولية، فهناك حسابات استراتيجية عديدة تفرضها طبيعة المصالح الدولية المتشابكة وحالات الشد والجذب، وأحيانا المداهنة بين فرسي الرهان.. المعسكر الغربي بنفوذه القديم والمعسكر الشرقي بتطلعاته اللامحدودة نحو تدشين نظام عالمي متعدد الأقطاب، وتجاوز مرحلة الهيمنة الأمريكية وأتباعها من دول الغرب.
ومع مطلع عام 2024، وبعد انضمام دول جديدة تأتي علي قمة أولويات دول “بريكس” اتخاذ إجراءات فاعلة للفكاك من هيمنة النفوذ الغربي، وإقناع دول الأعضاء بالتوافق علي عملة موحدة، أو إقرار التعامل فيما بينها بالعملات المحلية، وتفعيل دور بنك التنمية الخاص بمجموعة “بريكس” والتي انضمت إلي عضويته مصرنا المحروسة قبل عدة أشهر، وهو بنك تأسس عام 2015 بمساهمة دول البريكس الأساسيين بهدف توفير سيولة للمشاريع التنموية، والنمو الشامل لدي الدول الأعضاء، ودعم الأسواق الناشئة ليكون بمثابة المصرف البديل والموازي للبنك الدولي، كما يخطط لزيادة الإقراض بالعملات المحلية للدول الأعضاء.
وتتزايد الطموحات نحو إحداث تأثيرات فعلية بعد انضمام دول جديدة وهي مصر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات، وإيران، وأثيوبيا للدول المؤسسة: روسيا، والصين والهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا.
وتمثل “بريكس” بتركيبتها الراهنة 42% من سكان الأرض وربع الاقتصاد العالمي، ومن ثم فهي قوة اقتصادية لا يستهان بها سيكون لها دور في المستقبل المنظور، وخاصة مع اتجاه دول جديدة للانضمام إليها باعتبارها ثاني كتلة ذهبية اقتصادية بعد الكتلة الغربية وأتباعها من مختلف أرجاء العالم.
وحتي إشعار آخر يبقي الدولار العقبة الكؤود أمام تطلعات دول “بريكس” لكونه المكون الأساسي المهيمن علي سلة عملات دول العالم مما يصطدم بمساعى دول تجمع البريكس للحد من هيمنته شبه المطلقة على حركة التجارة فيما بين دول التجمع، علاوة علي تغلغله في كافة المعاملات المالية، وسيطرته على مجريات الأمور الاقتصادية عالميا.
وغني عن الذكر أن الدولار يمثل ما بين 75 إلى 80% من التعاملات المالية العالمية كما يمثل نحو 60% من عملات الاحتياطيات الدولية، أضف إلى ذلك فإن الدولار هو العملة العالمية الوحيدة التي تستوعب معاملات مالية ضخمة في قطاع الطاقة، وتداولات حركة النفط بما يصل إلى 100 مليون برميل من النفط بخلاف السلع الأخرى.
ومن هنا تسعى دول تجمع “بريكس” منذ أكثر من 10 سنوات للحد من هذه الهيمنة للعملة الأمريكية على تعاملاتها، وتأمل أن تصل لنتائج عملية في هذا السياق، كي تنجح مساعيها في الحد ولو بشكل جزئي من هيمنته وقيوده المتعددة!.
ولطبيعة العلاقات المتشابكة بين المعسكرين الغربي والشرقي، فلن تنقلب الدفة بين عشية وضحاها نحو القضاء المبرم علي هيمنة الدولار.
وأتصور ضرورة الضغط أولا لدي المنظمات الاقتصادية الدولية لإيجاد مخرج تتفق عليه غالبية دول العالم لإقرار فكرة “سلةالعملات”، والتي تحوي مجموعة من العملات القوية لأكبر الاقتصادات المتقدمة، مع الآخذ في الاعتبار بحث الدفع بالعملات المحلية لدي الدول البترولية والناشئة، قبل إقرار العملة الموحدة لتجمع دول “بريكس” مما يخفف من آثار الصدمات الاقتصادية المحتملة ومن هذه المكبلات التاريخية، ويمهد فعليا للتخلص من الدولار والتخلي الاختياري عنه، والتحرر من إتفاقية “بريتون” وهي الاسم الشائع لمؤتمر النقد الدولي الذي انعقد خلال الفترة من 1 إلى 22 يوليو 1944 في غابات “بريتون” في نيوهامبشر بالولايات المتحدة الأمريكية، وبموجب الاتفاق تم ثبيت عملات أجنبية مقابل الدولار، ومقابل قيمته من الذهب، ومن يومها أصبح العملة الرئيسة، والمقياس الأول مقارنة بكافة العملات الأخري.
كما أن مؤشرات ومعطيات الواقع تؤكد أن دول “بريكس” تكتسب صفة القوة المالية، فبالنظر إلى مساهماتها في الاقتصاد العالمي فقد وصلت إلي 31.5%، وربما تجاوزت هذا الرقم، كما يكشف أداء تجمع دول “بريكس” أن حصيلة الصادرات السلعية للمجموعة في نهاية عام 2021م بلغت 4.6 تريليونات دولار، وهو ما يمثل 20.7% من إجمالي الصادرات السلعية للعالم، في حين بلغت الواردات السلعية في نفس العام للمجموعة 3.9 تريليونات دولار، وبما يمثل 17% من إجمالي الواردات السلعية للعالم.
ولغة الأرقام هنا تكشف التنامي المستمر لصادرات دول مجموعة البريكس بقيادة الصين بوصفها الوزن الأكبر في صادرات دول المجموعة، الأمر الذي يفتح الباب أمام تأثير أكبر وأقوى لدول المجموعة على حركة التجارة العالمية خلال السنوات المقبلة، إلا أن الجزم بإمكانية التخلص من الدولار يرتبط بالتوصل لتوافق حول عملة موحدة أو منصة للتبادل التجاري عبر العملات المحلية، هو أمر محفوف بالتحديات والمخاطر والمعوقات، وسيكون له تأثير كبير على حركة التجارة العالمية بحسب تقديرات ورؤي معظم الخبراء والمحللين.
كل المعطيات تؤكد أن أمام تجمع “بريكس” تحديات جمة، كما أن فكرة إقرار عملة موحدة يستلزم المزيد من الإجراءات التمهيدية..
وقد يتطلب نجاح دول البريكس بخصوص مشروعها الضخم حل بعض المشكلات مثل الديون التي أغلبها بالدولار، وأيضا التفاوت الكبير في الميزان التجاري بين دول المجموعة، وإيجاد سبل لتبادل المنتجات والخامات والنفط والخدمات بعيداً عن الدولار كعملة وسيطة.
وترى لجنة التجارة في اتحاد الصناعات المصري، أنه رغم صعوبة الوصول إلى اتفاق على التجارة بالعملات المحلية بين دول “بريكس” أو الوصول إلى عملة موحدة بعيدا عن الدولار، إلا أن الدفع في الاتجاه للاعتماد على العملات المحلية يحد من الضغط على اقتصاد الدول الأفريقية، خاصة وأن الميزان التجارى لأغلب الدول الأفريقية يتعرض لضغط كبير من ارتفاع الدولار، وهو ما سيكون فرصة جيدة لدول القارة الأفريقية.
وفي تقديري، ووفقا لشواهد الماضي والحاضر فإن دول الغرب لن تبرح عرش المقدمة ببساطة دون صمود ومقاومة، رغم ما تكبدوا من أثمان باهظة نتيجة عدد من السياسات الخاطئة، وإزكاء نيران النزاعات، والحروب لضمان الهيمنة سياسيا واقتصاديا، ومحاولة إستخدام كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتنفيذ سيناريوهات إشاعة الفوضي الخلاقة مع سياسات مساندة تستهدف تحجيم محاصرة اقتصاديات الدول الناشئة وتكريس ثقافة الإلهاء والإغواء وغرس قيم الاستهلاك، والتمرد والتنصل من الهوية والولاء للوطن.
وما بين التفاؤل الحذر والتشاؤم غير المبرر ، فالأمر يتطلب البحث عن آلية فعلية تدعمها إرادة ناجزة لتجاوز كافة التحديات للقضاء علي هيمنة الدولار بعيدا عن فكرة الأمنيات والتطلعات دون اتخاذ خطوات فاعلة.
وفي الآونة الأخيرة شهد العالم التراجع وربما السقوط التدريجي لكوكب “اليابان”، نتيجة تداعيات الأزمات الأممية الاقتصادية وزيادة معدلات التضخم بصورة غير مسبوقة.
وأظهرت بيانات حكومية أن الناتج المحلي الإجمالي الاسمي لليابان لعام 2023 بلغ 4.2 تريليون دولار، مقارنة بنحو 4.5 تريليون دولار لألمانيا، وفقا للأرقام التي تم الكشف عنها الشهر الماضي.
وانخفض الين أكثر من 18% في عامي 2022 و2023 مقابل الدولار، بينها نحو 7% العام الماضي فقط.
ولعل المؤشر الياباني باعتبارها النموذج الأمثل
والحليف الاستراتيجي، للفكر الغربي الرأسمالي يطرح عشرات التساؤلات حول دور دول “بريكس” في إحداث خلخلة وتغيير، وربما النظم الاقتصادية القديمة أو على الأقل إزاحتها من مرتبة الصدراة.
وأتصور أن الفيصل في تلك المواجهات والمناطحات الاقتصادية وفي صراع العملات المتصاعد بأبعاد المتعددة، هو مدى قدرة دول العالم وخاصة الناشئة والساعية للنمو علي الإنتاج المحلي، والقدرة علي المنافسة في الأسواق العالمية بسلع ومنتجات متميزة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في بعض السلع الاستراتيجية، وتقليص حجم الإستيراد وترشيد الاستهلاك والاقتصار علي الضرورات الملحة فقط.
إنها معركة وجودية متعددة الأبعاد تتطلب الوعي بمتطلبات الحاضر والمستقبل..وإنا لناظرون.