إطلالة بديعة ،فما بين الفينة والأخري ينسج الكاتب والأديب رضا سليمان بحروفه المنمقة،وبلغته السردية المشوقة سطورا من الحياة عبر قصة أو أقصوصة أدبية تعكس ما يموج بالمجتمع من عادات وتقاليد ،لها ما لها وعليها ما عليها ، لكنه ينحاز في معالجاته عبر إشارات رمزية للقيم الإنسانية والأخلاقية ،والتي بدأت تتراجع تدريجيا مع طوفان العادات السلبية،كالكبر والعحب والتباهي،وقناعات بني البشر !.
وعبر هذه السطور أهدانا قصتة القصيرة “صراع الحشرات”.
…………….
🦎🦗🦟🕷️🦋
“صراع الحشرات”..!!
يوم الخميس الماضي تُوفي أحد رجال قريتنا، تمت مراسم دفنه بعد صلاة الظهر، أقيم العزاء فى مساء نفس اليوم بدار المناسبات التى أقيمت لكل المناسبات فى قريتنا.
لكن فى الحقيقة لا يُقام فيها غير “واجب العزاء” لأهل الموتى، بمجرد الإعلان عن حالة وفاة تفتح دار المناسبات ” ونطلق عليها اسم “مضيفة”، كمكان لاستقبال الضيوف” ورغم احتوائها على عدد لا بأس به من المقاعد والإضاءة اللازمة، إلا أن أهل قريتنا يتبارون فى الانطلاق إلى مراحل أعلى تدلل على أهمية المتوفى وثراء أهله. أتى أحدهم ذات يوم بعدد من المقاعد و وضعها أمام المبنى، كي يوحى للجميع بأن الجماهير التى أتت لتقديم واجب العزاء فى متوفاه كانت أكثر ممن سبقوه، ثم جاء بعده من قام باستئجار فراشه كامله أمام “المضيفة”، حيث الكثير من المقاعد، الإضاءة المبهرة، مكبرات الصوت، لدرجة أنهم كانوا يفضلون أن يبقى المعزيين أمام المضيفة للدلالة على امتلائها من الداخل وبالتالي توحى بالكثرة. عموما تحول جلب المقاعد والاضاءة أمام دار المناسبات إلى عادة لا يستطيع أحد أن يستغنى عنها حتى إن لم يكن هناك حاجة لها.
انتشرت المقاعد أمام المبنى مع الاضاءة ناصعة البياض، انبعث صوت القارئ بآيات القرآن الكريم، يصطف أهل المتوفى لاستقبال وفود المعزيين بعد صلاة العشاء فى صف على شكل نصف دائرة مكون من خمسة وعشرين رجلاً، منهم فقط اثنان هم أبناء المتوفى بينما ثلاثة وعشرون هم من الأقارب من الدرجة الأولى حتى الدرجة العاشرة .
بدأت وفود المعزّين فى التزاحم لمصافحة المستقبلين فكان صفاً طويلاً قوامه مائتا رجل تقريبًا، ولما كان الصف بهذا الطول فكان معظمه شاردٌ يتحرك بألية و ذهنه فى تفاصيل أخرى بعيدة عن المكان، وبعضهم كان يتبادل الحديث همساً مع جاره استهلاكاً للوقت. ومنهم مَن فضل ألا يتحرك مثل سلحفاة فى هذا الصف الطويل فانطلق مثل أرنب إلى المقاعد الموجودة أمام المضيفة وجلس عليها متابعاً أو شارداً.
يستمر الوضع دقائق، صوت قارئ القرآن يتردد فى المكان عبر مكبرات الصوت ويجيبه “الصييتة” من أتباعه بعبارات التكبير والتهليل ثناءً على عبقريته فى الأداء.
يتابع قريب من الدرجة الثالثة للمتوفى الحضور .. يدور بين الصفوف رافعاً يديه شاكراً المعزين، عيناه كانت تطبع فى ذاكرته كل الوجوه، فسوف تأتى ساعة يجزم فيها بأن “فلانًا الفلاني” لم يأتِ فى العزاء ولن يذهب أحد لتعزيته مستقبلاً، ينتهى من جولته ويجذب آخر بوجه عبوس من ذراعه، يشير إلى داخل المضيفة كى يدور بين الصفوف للشكر وقبل أن يترك ذراعه يهمس فى أذنه بأن يبحث عن سين أو صاد فهو لم يلحظ وجودهم.
وهكذا حتى فوجئ الجميع بسرب من الحشرات متنوعة الحجم (تبدأ من صغيرة جداً حتى تصل إلى ما يقارب عقلة الإصبع)، هبطت على المكان فجأة، لقد أتت على هدى الاضاءة البيضاء.
فى البداية يتماسك الجمع ولم يُعر هذه الحشرات أى اهتمام، كل فرد يخشى أن يرمقه الآخرون بنظرة استياء، فكيف تُخرجه مثل هذه الحشرات من حالة الحزن التى يجب أن تسيطر عليه، وكيف له أن يهتم بأى شئ غير قارئ القرآن وصوته الذى يجلجل .. ثم كيف لأحدهم أن يخرج من حالة الخشوع التى تصاحب الإنصات لقرآن يُتلى وحزن على فقيد عزيز.!!
لكن عدد الحشرات كان فى ازدياد .. يبدو أن المقدمة أتت لتكتشف المكان ولما شعروا بطمأنينة، وأن القوم خاشعون ولم يقم أحدهم بالتعدي على حشرة واحدة، أرسلوا إشارات نداء إلى البقية.
سقطت حشرة أمام أحد المعزين، يبدو أنها اقتربت كثيراً من المصباح فلسعتها حرارته، يتأملها وهى أمام قدميه وكأنه خاشع ينظر إلى الأرض فى تأثر، إنها هذه الحشرة التى يطلقون عليها “حفَّار الأرض” حشرة فى حجم عقلة الأصبع، رغم أنها تحفر الأرض الطرية وتأكل البذور المدفونة فيها إلا أنها تمتلك أيضا أجنحة تساعدها على الطيران. ولما كنا فى موسم حصاد الأرز وحرق قشه فقد هربت هذه الحشرات من النيران إلى أى مكان ليأتى بها قدرها إلى أمام دار المناسبات فى قريتنا.
سقطت حشرة حفَّار الأرض، من بين مئات الحشرات التى تطوف حول المصابيح، على أذن ابن المتوفى فضربها بكفه بحركة لا إرادية سريعة جداً فسقطت أمامه مباشرة، تأملها بالرغم عنه ليتعرف عليها فوجدها تعتدل بهدوء ثم تبحث عن اتجاه تسير فيه.
كان المعزون يقفون أمام ابن المتوفى بالذات لحظات ليشدوا على يديه ولم يشاهد أحدهم الحشرة على الأرض فوطأها الأول ثم تحرك فى دوره فى الصف، لم تمت الحشرة وإنما حاولت التماسك باحثة عن مهرب، تبعها ابن المتوفى بنظره متعجباً من صمودها للدهس، كانت يده ممدودة بشكل دائم لمصافحة المعزين بينما ينظر إلى الأرض وهذا طبيعي فهو كسير حزين، لكن الحقيقة أن تلك الحشرة التى لم تمت شغلته جداً، خاصة بعد أن دهستها قدم أخرى ثم ثالثه ورابعه.. وهكذا إلى أن سكنت بلا حراك وقد ظهرت أحشاؤها، ورغم ذلك لم ترحمها أقدام المعزيين الذين ظلوا يطئونها إلى أن انتهوا.
بدأت وفود حفَّار الأرض فى التزايد، وبدأت وفود المعزيين تقل، وقد اكتظت المضيفة بهم وجميع المقاعد أمامها، هنا يقف الصف المكون من خمسة وعشرين فرداً من أقارب المتوفى فى حالة ملل، فلم يعد يصافحهم أحد، بعد لحظات من الصمت وبعد كثير من الوقوف على ساق لإراحة الأخرى والعكس وبعد فرقعة أصابع اليدين وبعد كثير من السعال، لم يجد أكثرهم ما يشغل به نفسه فترك أحدهم الصف وجلس على أقرب مقعد بينما تعلل أخر بأنه يرشد عمال الضيافة كى يذهبوا بفناجين القهوة ” التى تحتفظ بوشها رغم الحركة الشديدة” إلى أفراد بأعينهم، ولم يجد ذلك الرجل قريب المتوفى من الدرجة الثالثة ما يفعله ، فتحركت قدمه اليمنى بهدوء لتدهس حشرة سقطت أمامه مباشرة، فعل هذا ثم نظر حوله ليراقب أثر فعلته على الجمع فلم يجد أحداً قد أولاه عناية ما ..
يلتزم السكون لحظات حتى تسقط حشرة أخرى ولكن على بُعد خطوة منه، يرفع قدمه ويمد ساقه ليتقدم خطوة كاملة ويدهسها فى الأرض بانتقام حتى إنه أثار بعض الأتربة، والحقيقة أنه كان يرتجى من فعلته أن تثير انتباه أى أحدهم قبل أن يعود إلى مكانه فى الصف بعدما مرت حركته الأولى بدون أى رد فعل.
بالفعل يشاهده رجل يقف فى أول الصف يرتدى جلبابًا داكن اللون وطاقية من الصوف البنى، ينظر تحت قدميه عله يجد حشرة هنا أو هناك ليدهسها، طالت فترة انتظاره إلى أن سقطت واحدة بالقرب منه فأسرع ليدوسها بقدمه قبل أن تهرب أو تصل إليها قدم أخر، قتلها ثم عاد إلى مكانه فى الصف بسعادة لم يستطع أن يواريها.
تضايق الأول من هذه الابتسامة التى شاهدها، فكيف يبتسم لأنه قتل حشرة واحده بينما هو قتل اثنتين ولم يبتسم !! يقرر أن يقتل ثالثة ورابعة وأن يحافظ على حالة الحزن التى يجب أن يكون عليها فى هذه المناسبة، يبحث عن حشرة، يشاهدها على الأرض تحفر بأقدامها فى التراب، كأنها استشعرت الخطر وتود الفرار، يتقدم ماداً ساقه على طولها وقد فرد صدره وهو يتنفس بشده، يهبط بقدمة محدثاً صوتاً ليقتلها بعنف وهو ينظر إلي غريمه نظرة تعبر عن أن قتل حشرة أمر عادى لا يستحق ابتسامة الظفر هذه.
يغتاظ رفيقه وهو يتخيل أن الرجل يدخل معه فى منافسة وصراع، يبحث عن حشرة، يجد واحدة قد سقطت على كتف الرجل المجاور له، يضربها بظهر يده لتسقط على الأرض ثم يقتلها ناظرا إلى الأول وكأنه يقول أنا أيضًا أستطيع أن أفعل ذلك.
واستمرت المباراة بين الرجلين فترة ولم تلبث أن لفتت أنظار الآخرين من أهل المتوفى أو من الجالسين من المعزيين على المقاعد فكان أن بحث كل منهم على حشرة ليقتلها وقد تملكهم الحماس وتبعثرت نظراتهم على الأرض والأجساد المجاورة باحثة عن حشرات ليبدأ صراع من نوع خاص .. صراع الحشرات.
كان كل منهم يتمنى أن لو قتل أكثر من الأخر ، وفى صمت يعد قائلاً : قتلت ثلاثة .. أربعة.. خمسة .. نصف دستة ..
يتمنى رجل، سمين وكرشه قد تدلت بوضوح بشكل جعله يبدو قصيراً، أن يكون هناك حكماً لهذه المباراة للتعرف على عدد النقاط لكل فرد وفى النهاية يعلن اسم الفائز الذى حصد أكثر عدد من النقاط .. ولو عرضوا عليه مهمة التحكيم هذه لوافق فى سعادة حتى إنه كان يعد فى داخله كم قتل هذا وكم قتل ذاك على وجه التقريب من الحشرات تحسبًا لإسناد مهمة التحكيم إليه. تزايد البحث عن الحشرات حتى إن بعضهم تتبعها وهى فى الهواء كي يقتلها لحظة هبوطها فى أى مكان مما أدى إلى أن ترك بعضهم مكانه، فتداخلت الصفوف وتشتت تريب المقاعد بينما يعلو صوت القارئ أكثر داخل المضيفة ويجيبه أتباعه بعبارات الاستحسان.
يمر الوقت على الجمع وهذا حالهم حتى ينتهى العزاء، ينصرف المعزون .. بعدهم بقليل أهل المتوفى .. تفرقوا جميعاً فى شوارع قريتنا ولا حديث لكل منهم إلا عن الحشرات وكم قتل منها سائلاً الأخر عن عدد ما قتل والسعادة ترفرف عليهم والضحكات تنبعث من هنا أو هناك.
***
🦗🦟🕷️🦋