في تقديري أن إفادة الرواية من الفنون الأخرى كالموسيقا والتشكيل والشعر وغيرها، يعني إفادتها – بلغة ناتالي ساروت – من مخصّبات تضيف إلى الأرض المنهكة تجدد حياة.
على الروائي أن يثري إبداعه بإسهامات الفنون الأخرى، بما تملكه من خصائص جمالية وتقنية، فيتحقق للنص الأدبي أبعاد جديدة – أشارت إليها ساروت – وتتحقق كذلك أبعاد جديدة للفنون الأخرى.
على سبيل المثال، فإن الروائي ينبغي أن يكون ذا حس عال بالشعر، بالقصيدة الشعرية، فثمة حس للكلمة، وحس للصورة، وهما حسّان شاعريان. اللفظة مهمة في الرواية، والصورة أيضَا بالقدر نفسه لأهميتها فى القصيدة الشعرية. “الرواية الحديثة تحتوى إطارًا شعريًا، بل إنها بدون الشعر لا يمكن أن تحيا، ولا أن تبشّر بآفاق أخرى للمعرفة غير المنظورة “. إن المزاوجة بين التوتر الشعري والفن السردي إضافة مطلوبة في فن الرواية.
بدأ بلزاك حياته الأدبية شاعرًا، ثم انتقل إلى كتابة الرواية. الأمر نفسه بالنسبة لهمنجواي وفوكنر وعشرات غيرهم. وظل فيكتور هوجو – إلى نهاية حياته – يزاوج بين الشعر والرواية، وكان وليم بليك شاعرًا ورسامًا، وكان اليوت شاعرًا وناقدًا، ويذهب بول فاليري إلى أن كل كتابة أدبية هي كتابة شعرية.
أذكر أني حاولت الشعر فى البداية، وتأثرت بشعراء أبوللو، فلما أدركت أن القصيدة يصعب أن تكون لغتي التعبيرية، تبدّت لغة الشعر في أعمالي الروائية والقصصية، وهو الأمر الذى يعد ملاحظة أساسية في التناول النقدي لأعمالي. تهمني اللغة فيما أكتب، الكلمة المناسبة في موضعها، الكلمة الفلوبيرية – على حد تعبير بورخيس – التي تحسن التعبير عن الفوضى الدنيوية الغامضة، أو عن الرؤيا اللحظية الكاشفة. لا تهمني الألفاظ الضخمة أو المهجورة أو القديمة، لكن تشغلني موسيقا الحرف والكلمة والجملة، أحذف، وأضيف، وأعدّل، بما يحقق الاتساق والهمس الشعري والإيحاء ذي الدلالة.
القول بموسيقا الشعر يعني أهمية الموسيقا بالنسبة للشعر. إن الشعر لا يصبح شعرًا بدون موسيقا. ويرى جاتشيف أن الموسيقا هي أقرب الفنون إلى الأدب، وإن تباينًا في طريقة التعبير عن الإيقاع العام للوجود، وللعالم الداخلي للإنسان. ولا يخلو من دلالة قول بابلو بيكاسو: ” إذا أردت تعلم التكوين في الرسم، فإن عليك بدراسة مسرح مايرهولد”.
لا يستوقفني الفنان الذى تدرس مسرحياته، بقدر ما يبدو مطلوبًا تفاعل الفن التشكيلي والمسرح.
يغيظني ذلك الذي يحاول التجريب في القصة القصيرة – مثلًا – ويرفضه في الفن التشكيلي. يكتب أعمالًا يؤطرها النقد في السوريالية، بينما يعجز عن قراءة إبداعات تشكيلية مماثلة. الفن التشكيلي يلتحم بالفنون الأخرى، من خلال التكوين والإطار والأبعاد والأضواء والظلال. واتساقًا مع قول سرفانتس: الرسام والأديب هما سواء، فإن أرنولد بينيت يذهب إلى أن ” التشابه بين فن الرسام وفن الروائي تشابه تام، فمصدر الوحي فيهما واحد، وعملية الإبداع في كل منهما هي العملية نفسها – مع اختلاف الوسائل – ونجاحهما أيضًا واحد، وبوسعهما أن يتعلما، كل من الآخر، وبوسعهما أن يشرحا ويساندا كل الآخر، فقضيتهما واحدة، ومجد الواحد هو مجد الآخر”.
نشأت الرواية من الدراما، ومن ثم فهي تشتمل على بعض المكونات المسرحية. وتؤكد آراء نقدية عمق الصلة بين القصة القصيرة والمسرحية.
تنبأت الرواية – والقول لكونديرا – بفن السينما، وتمثلته مسبقًا.
السينما هي رواية بالصور، حتى أن السؤال يثار: ما أساس الفيلم السينمائي: هل هو صور لرواية، أم رواية لصور؟
أفادت السينما من المدارس الفنية التشكيلية المختلفة مثل التأثيرية والتعبيرية والتجريدية والسوريالية. كما أفادت الرواية من تقنية المدركات الحسية والبصرية: المونتاج، التبئير، الزاوية القريبة، التناوب، الاسترجاع. وتبادلت الرواية، والسينما بعامة، التأثر والتأثير.
أفدت – شخصيًا – من دراسة السيناريو على أيدي أساتذته الكبار: صلاح أبو سيف وعلي الزرقاني وصلاح عز الدين وغيرهم. تبينت إمكانية – بل حتمية – تلاقح السرد القصصي وتقنية السيناريو من تقطيع واسترجاع إلخ.
بالطبع، فإن العمل الإبداعي يضع قوانينه، فلا تأتي بالضرورة من خارجه، لا تقحم عليه، أو تنبو عن سياقه. وعلى حد تعبير إليوت فإن القانون الأدبي الذى جذب اهتمام أرسطو لم يكن قانونًا وضعه هو، بل قانونًا اكتشف، لكن القصة والقصيدة والرواية والمسرحية إلخ.. من خلال التراث الهائل لكل منها، تظل لها مواصفاتها الخاصة، شكلها الفني الخاص.
لعلى أصارحك، أمام قول البعض وهو يدفع إليك بأوراقه: هذا نص!، أني أعتبر هذه الأوراق مجرد محاولة، نثرية أو شعرية، حتى أتبين مدى اقترابها، أو ابتعادها، عن هذا الجنس الأدبي أو ذاك. لا أغفل إمكانية توقعي العمل المتميز، العبقري، الذى قد يفاجئني بجنس إبداعي لم يكن موجودًا من قبل، لكن هذا العمل لابد أن يحمل قوانين أخرى، خاصة، ومغايرة.