تذكر موسوعة وصف مصر على لسان العلماء الفرنسيين الذين أعدوها وسجلوا شهادتهم بشأن ترجمة التوراة، قالوا حرفياً:” إن من الأفضل لنا – بالأحرى – أن نعتقد بأن هؤلاء المترجمين المتبحرين لم يسيئوا هنا ترجمة كلمة من كلمات لغتهم، ولكنهم أضافوا -فيما يرجح – شيئاً ما إلى النص العبري لكي يجعلوا الترجمة أكثر وضوحاً وليرسخوا معنى بعينه!!
ومع قراءة مابين السطور لاستبيان حقائق التاريخ وتفنيد محاولات خلط المصطلحات والمفاهيم والترجمة العمدية الخاطئة..ومع الباحث الدكتور محمد مبروك نتعرف علي مصر الأخري .. من خلال دراسته الموسوعية ( مصر الأخري..التبادل الحضاري بين مصر وإيچبت) والتي صدرت عن دار “ض ستور للنشر” في ثلاثة أجزاء في محاولة بحثية جادة لتدراك أخطاء تاريخية ومفاهيم غرستها أياد خبيثة للنيل من ترات وهوية وأصالة مصر المحروسة.
وفي إطار حرص منصة المساء والجمهورية أون لاين علي متابعة أحدث الدراسات والأبحاث العلمية، وتقديمها لقرائها نعرض سلسلة من الحلقات بقراءة عصرية متفحصة وبرؤي مؤلف الموسوعة.. في هذه السطور.
والحلقة الثالثة بعنوان”الغزو اليهودي في عهد بطليموس حتى عهد بطليموس الثاني ”
* الغزو اليهودي في عهد بطليموس حتى عهد بطليموس الثاني فيلادلفوس
كانت اليهودية محدودة الانتشار في موطنها الأصلي العتيق في كهوف ومغارات الأدغال الجبلية اليمنية، وكان الكتاب المقدس “التوراة” الأصلي باللغة السريانية يتحدث عن قصة موشيه وفرعه (بلهجة سرو يافع جنوب غرب الجزيرة العربية) ويذكر أنها حدثت في بلدة (مصرايم، أو متسرايم)، حسب لهجات العشائر، وأن فرعه هذا كان زعيم عشيرة المصرايمين (المُضَريين: بلهجة قريش؛ لأن الصاد والضاد تتبادلان الأداء في لهجات العشائر، مثل كلمة: أرض= أرص بالعبرية)، لكن حدث تغيير مفاجئ في نص التوراة عندما تسلل اليهود إلى دهاليز السلطة البطلمية، وبدأ ترجمة التوراة إلى اليونانية جعلها تسقط متسرايم من النص وتستبدله بـ إيجبتوس في النص المترجم، فأصبحت شعوب العالم تقرأ عن قصة موشى وفرعه والغرق أنها حدثت في إيجبتوس، ولم يعد أحد يعرف شيئاً عن مصرايم أو متسرايم الواقعة على نهر الخارد بمنطقة الجوف باليمن، فقد اختفت من الجغرافيا بفعل الزلازل والبراكين ووتصحرت أراضيها بفعل التغيرات المناخية الوعرة هناك وجفاف أحد روافد نهر الخارد التي كانت تطل عليه، أما تاريخها واسمها فقد هاجر إلى إمبراطورية وادي النيل العظمى إيجبت وتم تلبيسه برعاية الكهنة.
كان بطليموس لديه طموحات عظيمة، شيد مكتبة الإسكندرية والجامعة والمنارة ونادي للمثقفين في العاصمة، وحيث انعقد السنهدرين، وهو مجلس يضم أكبر سبعين كاهن يهودي، ووتمكن اليهود من التسلل وإدارة مكتبة الإسكندرية وخصصوا قسماً كاملاً لتاريخ اليمن فيها، قرر السنهدرين ترجمة التوراة إلى اليونانية وأقنعوا بطليموس بفكرة تقديس اسم بلده في الكتاب السماوي، وهو ما عرف بـ”الترجمة السبعونية”: (سبتوجنت). وفي الترجمة تم استبدال أسماء بلاد بأخرى، ومثال: مدينة حبرون، فتقول التوراة: ثم ماتت سارة في قرية أربع؛ أي حبرون في أرض كنعان “، وهنا ذكر الناسخ الاسمين معاً القديم والجديد المضاف، وهو ذات الوضع في سفر التكوين تحولت كلمة صوعن إلى مدينة رعمسيس، برغم أن كلمة صوعن عربية بينما رعمسيس تركيبة هيروغليفية، وقرية صوعن سعودية قديمة، بينما رعمسيس شيدها الملك رمسيس الثاني في بلادنا إيجبت في وقت متأخر عن أحداث التوراة بمئات السنين !.
ما يعني أنه تم تفكيك النص التوراتي وإسقاط أسماء جغرافية معينة وإعادة تجميعه على جغرافيا جديدة تماماً .
وتذكر موسوعة وصف مصر على لسان العلماء الفرنسيين الذين أعدوها وسجلوا شهادتهم بشأن ترجمة التوراة، قالوا حرفياً:” إن من الأفضل لنا – بالأحرى – أن نعتقد بأن هؤلاء المترجمين المتبحرين لم يسيئوا هنا ترجمة كلمة من كلمات لغتهم، ولكنهم أضافوا -فيما يرجح – شيئاً ما إلى النص العبري لكي يجعلوا الترجمة أكثر وضوحاً وليرسخوا معنى بعينه، والأمر الذي حدث منهم في أماكن عديدة (من ترجمتهم هذه) فلنقارن إذن النص العبري للآية التي نحن بصددها بالترجمة اليونانية، سنجد أن ” السبعين” لم يشاءوا مطلقاً أن يترجموا هذا النص ترجمة حرفية، وإنما شاءوا أن يفسروه… ويدل على ذلك كلمتي هيروبوليس ورعمسيس اللتين لا توجدان مطلقاً في النص العبري، ولا يمكن أن يعود هذا الاختلاف وغيره كثير إلى خطأ يمكن أن نلصقه بالسبعين، وزيادة على ذلك فليكن هؤلاء قد تصرفوا تبعاً لدافع قد نفترضه فيهم”.
كما يؤكد الكُتاب الغربيين أن المجلس الأعلى للمجمع اليهودي في ذلك الوقت صادق على هذه الترجمة اليونانية رغم سوء ترجمتها وتوسلوا لمترجميها بأعذار لا يقبلها عاقل ، فالنص الأصلي في التوراة (تك21:21) يقول:
(וישׁב במדבר פארן ותקח־לו אמו אשׁה מארץ מצרים)
ومعناه:( وَسَكَنَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ، وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَايم)
ومعروف أن فاران هي جبال مطلة على مكة، وأن مصرايم جنوب مكة، لكن الترجمة اليونانية جاءت على هذا النحو:
καὶ ἔλαβεν ،καὶ κατῴκησεν ἐν τῇ ἐρήμῳ τῇ Φαραν .αὐτῷ ἡ μήτηρ γυναῖκα ἐκ γῆς Αἰγύπτου
ومعناه:( وَسَكَنَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ، وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ أَرْضِ إيجبتوس).
أي تم وضع إيجبتوسمقابل (مصرايم)، برغم أن ذلك ليس ترجمة إطلاقاً وإنما استبدال كلمات لا علاقة لها ببعضها، فلا توجد أي صلة بين مصرايم و إيجبتوس، لا من حيث المعنى اللفظي، ولا الجغرافيا، ولا التاريخ.. ولو كانت (مصرايم) معروفة في هذا الزمن كاسم لبلاد وادي النيل، لما كان الكهنة في حاجة إلى حذفها ووضع “إيجبتوس” أو كانوا على الأقل أضافوا الاسم القديم إلى الجديد بحيث تخرج الترجمة مثلاً (مصرايم التي هي إيجبتوس) إنما هذا يؤكد أن كلمة مصرايم العبرية لم يكن لها وجود في بلاد وادي النيل.
وهذه كانت المرة الأولى في التاريخ التي يقترن فيها اسم (مصرايم = Egypt)، ومن هذا التاريخ عُرفت الدولة باسمين معاً، ليس أحدهما ترجمة للآخر ولا صلة بينهما، وبقي “مصرايم” في السر و”إيجبتوس” في العلن، ولا أحد يعرف أي علاقة بينهما، فالأول اشتقاق من اسم مصرايم ابن نوح ” والثاني إيجبتوس؛ اشتقاق من الجذر الهيروغليفي (أي جبت) ؛ ويعني أرض الإله (وادي النيل)، ونطقه اليونانيون إيجبتوس، كعادتهم يضيفون المقطع (os) لأسماء الأعلام.
وفيما بعد دخول العرب وشد أوتار خيامهم فيما عرف بالفسطاط، بدأ اقتران إيجبت بـ ديار مصر كدلالة على منطقة الفسطاط وجنوبها، وهذا سبب تسميتها بـ (مصر القديمة)، وبدأ الاسم يظهر للعلن بتوسع انتشار الإسلام واللغة العربية حتى شمل البلاد كلها، وعلى مدار هذا التاريخ لم يعد ممكناً لأحد استبعاد واحد من الاسمين؛ لأن الرابط بينهما أصبح متيناً وعميقاً عمق التاريخ.
ويثبت بذلك أن نتاج الترجمة كان تحويل اسـم علـمٍ هــو (مصـرايم) إلى اسم عَلَم آخر هو(إيجبتوس) ! وإيجبت هذه بلاد عريقة يعرفها القاصي والداني في العالمين القديم والحديث، أما كلمة مصرايم هذه فلم يكن لها أي وجود واقعي في عصر ترجمة التوراة، ولم يكن أحد يعلم عنها شيئاً لأنها كانت من الممالك العربية البائدة مع قوم لوط وعاد وثمود وإرم ذات العماد..إلخ.
ونتيجة هذا التزوير القديم اسـتندت كل الترجمات التوراتيـة الـتي صدرت لاحقـاً إلى “السبعونية” ولـيس إلى الأصل السـرياني، فنقلت اسم بلدة فرعون ”إيجبت” وليس مصرايم”، فلـو اطلعت علــى جميع الإصدارات التوراتية التي يتداولها الغرب المعاصر لن تجد اسم مصرايم الحقيقي بل ستجد إيجبت هي بلد الاتهام.
وفيما يلـي بعـض الأمثلـة لنصوص بلغات مختلفـة لنفس المقطع الذي حللنـاه سـابقاً لتجـد كيـف وضعت “إيجبت” مكان مصرايم في نص التوراة:
المقطع ٢١:٢١ سفر التكوين الترجمة الألمانية :
(GLB) under wohnte in der Wüste Pharan ،und seine Mutter nahm ihm ein Weib aus Agypten land
وفي الترجمة الفرنسية:
(FDB) Et il habita dans le désert de Paran; et sa mère lui prit une femme du pays d’Egypte
وفي الترجمة الانجليزية:
(KJV) And he dwelt in the wilderness of Paran: and his mother took him a wife out of the land of Egypt
ومثال أكثر استخفافاً، يقول المؤرخ السوري د. أحمد داود: في طبعة الكتاب المقدس الصادر عن دار المشرق عام 1876 نقرأ في نبوءة عاموس:” إن السيد رب الجنود هو الذي يمس الأرض فتذوب وينوح جميع الساكنين وتطمو كلها ثم تنضب كنهر مصر” وهذا المقطع نفسه نجده في طبعة عام 1979 أي بعد عامين وقد تحول إلى “نهر النيل.
وفي نصٍ آخر تقول التوراة: فَرَدَّ الرَّبُّ رِيحًا غَرْبِيَّةً شَدِيدَةً جِدًّا، فَحَمَلَتِ الْجَرَادَ وَطَرَحَتْهُ إِلَى بَحْرِ سُوفَ. لَمْ تَبْقَ جَرَادَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ تُخُومِ مِصْرايمَ.(خروج 10:19)
(لاحظ بحر سوف: أي البوص أو الحلفا ؛ نبات مائي Reed) فلو كان يقصد نهر النيل لنطقه نهر النيل لأ ذلك أكثر عَلمية وشهرة وتمييزاً من وصفه بأنه نهر البوص، فهل يكون اسمه نهر النيل ويقول بحر سوف أو بحر البوص؟! وهذا ما أوقع المترجمين في مأزق، فقاموا بتغيير الخطة بوضع بديل احتياطي، وغيروا الكلمة من Reed إلى Red لتصبح بذلك التفسير يشير إلى البحر الأحمر وينتهي الأمر !
………………
» يتبع في حلقة أخري بإذن الله.