كائنات ليست من ورق.. قراءة بينية مقارنة في المتخيل السردي ” كتاب جديد للناقدة اللبنانية سمية عزام،تتناول فيه عدة روايات عربية وأجنبية بالدراسة التي ارتكزت على عالم النص المعيش، وتجارب الشخصيات، بغية وصف ما يفجع الإنسان في جسده ومكانه، والكشف عن المواقف التي يتخذها إبّان الفاجعة وإزاءها.
تقول الناقدة سمية عزام لأنّ الأدب المقارن في أحد تعريفاته فنّ تقريب الأدب إلى مجالات المعرفة الأخرى من طريق البحث عن روابط التشابه، وتقريب الأحداث والنصوص في ما بينها، بهدف وصفها وفهمها، فذلك يلتقي مع غرض الدراسة الفينومينولوجيّة لفهم أفضل للسرد بما هو أحد المظاهر النوعيّة للروح الإنسانيّة.
وإذا ما ذهبت قراءتي في اتجاه الدراسة البينيّة التي تتخذ أكثر من حقل معرفيّ مرجعيّة لها، فلأنّه أصبح لزاماً فتح المسارات بين الحقول المعرفيّة ومراجعة تخصّصات علميّة تتآزر ابتغاء الكشف وفهم أي ظاهرة من زوايا مختلفة. ففي القراءة البينيّة نشعر بحضور معنى “واو العطف” الواصلة بين العوالم والأشياء والأحداث والأمزجة، والجامعة بين نتف العلوم.
يقع الكتاب في ثلاثة فصول ارتكزت القراءة في الأول على ظاهرات كارثيّة فجعت الشخصيّات في روايات تنتمي إلى أزمنة وثقافات متعدّدة، تقاطعت فيما بينها من حيث تجسيدها الفاجعة وفهمها في تعدّديّة خطابات ورؤى، وتصويرها الجسد المتألم، والمكان المنكوب، والذاكرة الجريحة. نصوص استحضرت تفشّي الأوبئة، على غرار الطاعون وإيبولاوالشوطة، وفيضان النيل، والحرائق المدمّرة؛ وذلك في سعيٍ إلى استخلاص معنى التجربة في الخطاب التجاوزيّ، فرحًا بالنجاة، وتخطيًا للحزن والغمّة من طرق مختلفة اقترحتها الشخصيات الروائيّة في كلّ من: “الديكاميرون” لجيوفاني بوكاشيو، و”الحرافيش” لنجيب محفوظ، و”الطاعون” لألبير كامو، و”ثلاثيّةأوزير” (“أول النهار” و”ليل أوزير”، و”وشم وحيد”) لسعد القرش، و”إيبولا 76″ لأمير تاج السرّ.
وفي الفصل الثاني تتكئ الدراسة على ثيمة الجوع في روايتين، هما: “جوع” لمحمد البساطي و”الجوع” لكنوت همسون؛ بوصف الجوع شخصيّة محوريّة مهيمنة على ما عداها من شخصيّات، وفضاء نفسيًّا يحكم مجتمع النصّين ويتحكّم بالمصائر. فأتى رصد العلاقات والحركات محدّدا منحى القراءة، إذ اقتضت وصفًا حسّيًا للجائع في تطوّر حالته، وسلوكياته، وبرامج أفعاله إزاء تحدّيات الجوع، ذاهبة بعد ذلك إلى أسباب جوعه وتأمّلها. وقد انطلقت من فرضيّة أنّ الجوع مشكلة إنسانية حيويّة لها امتدادات تاريخيّة وجغرافيّة، وأنّ علاقة الإنسان (والقارئ الضمني) به علاقة تجربة معيشة، الأمر الذي يسهم في تشكيل وعي مسبق ويفتح منفذًا للدخول إلى عالم النصّ. وفي تبيان مفارقات الجوع والقيم نستشفّ البعدين الروحي والفكري جنبًا إلى جنب مع البعد الفيزيولوجي للجوع ومعانيه؛ فقد يكون البدن جائعًا لكنّ النفس البشريّة لا تتخلّى عن أشواقها الروحيّة وتفكّراتها الوجوديّة.
وفي الفصل الثالث، بيّنت دراسة خطاب المرض في الروايتين اللبنانيّتين: “الرغيف” لتوفيق يوسف عوّاد و”الفراشة الزرقاء” لربيع جابر، سلسلة تفاعلات جدليّة لخطابات متصارعة، في تناصّ تاريخيّ ملموس من حيث علاقة الحرب العالميّة الأولى ومفاعيلها العنفيّة، والاضطهاد العثمانيّ، والاستغلال الطبقي من جهة، بالهجرة والفقر والجوع وأمراضهما، بتمثّلاتها البدنيّة والنفسيّة، خصوصًا الجنون وفقدان الذاكرة والاستسقاء وأكل المثيل (أكل الإنسان لبني جنسه في أحد النموذجين)، من جهة أخرى. وكشفت خطابًا معرفيًّا يشرح وباء السلّ، وأمراض دود الحرير وغيرها ممّا يصيب الإنسان والحيوان والنبات.
كما استلهمت القراءة مواقف أبرز المفكّرين، أمثال المقريزي وبرديائيف وتورين وموران، إزاء تحدّيات أمراض الماضي والحاضر، بحكم انشغال العالم بجائحة كورونا، وما رافقها من عزل وتفكّك، وما كشفته من هشاشة الترابطات المعولمة. فاستجلت، في ضوء الأبعاد الدلاليّة الوجوديّة المؤوّلة، تقاطع الرؤى حول سبل تخطّي الفردانيّة والعزلة وسوء التدبير من طريق التضامن الاجتماعيّ، والتواصل الإنسانيّ- الدوليّ. وأوضحت ضرورة التحوّل في الذهنيّة، وأنماط العيش، وفي البنى الخطابيّة السياسيّة والاقتصاديّة والبيئيّة؛ الأمر الذي يؤكّد من جديد انجدال الخطابات في محاولة الخروج من الأزمات.
تقول د. سمية عزام إن النصوص التي تناولتها كشفت قوة الحياة؛ فالأمل يتجلّى فعلَ بقاء، ولا يبقى في مستوى الكمون. هو الحق الإنساني في الظفر بالعيش، مثلما هو ليس طريق فرار من الواقع، بل فعل وجود. ويصحّ تحديده بكونه الانتقال من المعتم إلى المضيء، من قتامة ما تبصره العين ويعيشه الجسد إلى ضياء ما يحسّه القلب، ولعلّ في هذا العبور يكمن معنى التجربة.
وتضيف في تقديمها للكتاب: أردتها قراءة أكثر إنسانيّة تقلّص المسافة بين الإنسان ومكانه وبين الماضي والمستقبل، وتضارع النصوص المتخيّلة في رسالتها حين أفردَت للمظاهر الحسيّة مساحةً لا يحتاج معها القارئ إلى أن يفسّر العالم، بل إلى أن يشعر بما يتصوّره من فجائع ليمتلئ قلبه بالمعاني النبيلة، ويعيش انفعالات تطهيريّة في انتقاله من ضجيج المكان المفجوع إلى سكونه، ومن صوت الجسد المتألم إلى الصمت، فيصعد من هذا الصمت إلى صوت الحكاية؛ صوت قد يتفوّق على البحوث العلمية التي تضطلع بالتعليلات العقليّة للظاهرات.
وددتُ أن يشاركني القارئ في تأمّل الآثار السرديّة من خلال عيون صنّاعها، وأن يعاين الجمال في ما صوّروه من قبح ومهانات بشريّة. فالعيون نوافذ تطلّ منها النفس على العالم؛ نفس عاشق على عالم الحبيب، ونفس كاتب على عالم الرؤيا. ويطلّ من خلالها عقل فيلسوف على ما بعد الرؤية، وإلى ما يفسّرها. وبتعبير فينومينولوجي، فإنّ العين لحم ومرآة تستجيب لنداءات الأشياء اللامرئية لتحوّلها إلى مرئيات. واللحم يتخذ دلالة الالتحام والاندغام بالحياة والتداخل مع لحم العالم؛ فرؤية الشيء تعني الغوص فيه. والعين أشبه بآله تصوير تلتقط الصورة من بعيد ثم تكبّرها لتنبهنا إلى شيء ما يستقرّ في المكان الذي نسكنه، ويمتدّ فيه، وتهمّش في المقابل أشياء أخرى، فتتراجع إلى دائرة اللامرئي.