عرض باليه “نافورة باخشى سراي “الذى قدمته فرقة بالية أوبرا القاهرة على المسرح الكبير من الأحداث الهامة لأنه إحياء لذكرى أول عرض للفرقة المصرية فى بداية تكوينها عام 1966 تحت إشراف مباشر من صانع نهضتنا الثفافية الحديثة د. ثروت عكاشة (1921-2012) ويعد تخليدا لذكرى رواد البالية المصريين الذى حرصت الأوبرا أن تتصدر أسماؤهم كتيب الحفل مما أضاف أيضا قيمة لهذا الحدث كما فرض مقارنة تستحق البحث بين أن الأدوار الرئيسية كانت بالكامل للمصريين والآن جميع الراقصات من الأجانب وأيضا المجموعات(كورت باليه) أجنبيات وهذا أمر يستحق الاهتمام والبحث عن حلول.
والبالية من أعمال الموسيقار الروسى بوريس أسافيف (1884-1949) والذى تقدم الفرقة أعماله لأول مرة وهذه قيمة أخرى تضاف لأهمية هذا العرض وهو مؤلف وكاتب وناقد وأستاذ فى علوم الموسيقى وأحد مؤسسى علم الموسيقى السوفيتية ودرس على يد الموسيقار الروسى الشهير ريمسكى كورساكوف ( 1844-1908) وأهدى له الموسيقار الروسى المعاصر بروكفيف (1891-1951) سيمفونيته الأولى .. من مؤلفاته العديد من الباليهات والأوبرات وسيمفونيات وموسيقى حجرة ويعد باليه “نيران باريس ” و”أوهام ضائعة “وهذا الباليه الذى نحن بصدده من أشهر أعماله كما أن له دور بارز فى تقديم الموسيقى المعاصرة الروسية والأوربية عن طريق تأسيسه فرع لجمعية الموسيقى المعاصرة.
وباليه ” نافورة باخشى سراي “وترجمتها “نافورة الدموع” كتب نصه نيكولاى فولكوف (1894-1965) مقتبس من قصيدة بنفس الاسم للشاعر الروسى ألكسندر بوشكين (1799-1837) كتبها فى 1823بعد زيارته لقصر باخشى سراب الذى أقامه قائد من التتار فى القرن السادس عشر بجزيرة القرم وهدم وأعيد بناؤه مرة أخرى ومازالت نافورة الدموع فى بهو القصر وبجوارها تمثال نصفى للشاعر بوشكين وتعد مزارا سياحيا ساهم فى شهرته الشعر والبالية.
الباليه قدم لأول مرة فى 28 سبتمبر 1934 على مسرح أكاديمية كروف للأوبرا والباليه (مارينسكى) فى سان بطرسبرج (ليننجراد) وقام بتصميم رقصاته روستيسلاف زاخاروف (1907-1984) وقد نال شهرة عالمية بعد إنتاج نسخة فيلمية منه عام 1953 تحت عنوان نجوم البالية الروسى قام بالبطولة اثنتان من أشهر الراقصات فى تاريخ البالية “جالينا اولا نوفا ” و”مايا بلسيتسكايا”.
وتدور أحداثه حول الأميرة الرقيقة ماريا التى تعيش قصة حب مع حبيبها فاسلاف الذى كان فى حفل بالقصر احتفالا بقرب الزفاف ولكن جيوش التتار تهاجم المملكة وقائدهم خان جراى يقتل حبيبها ويخطفها ويضمها إلى زوجاته ولكنه بمجرد رؤيتها يقع في حبها مما يثير غيرة “زاريما “إحدى زوجاته والمقربة إليه والتى يطلق عليها “نجمة الحب” فتقرر قتلها ويصدم الخان بهذه النهاية المفزعة لمحبوبته ويأمر بقتل زاريما ويعيش حالة من الحزن والعزلة والوحدة ويحاول “نور على” قائد الجيش أن يجعله ينسى حزنه ويفشل فى ذلك حيث لا تتبقى له سوى النافورة التي أقامها تخليداً لذكراها ويقيم بجانبها يتخيل حبيبته ويزرف الدموع.
البالية تم تقديمه فى مصر لأول مرة فى 4 ديسمبر 1966 فى الأوبرا الخديوية بمصاحبة أوركسترا القاهرة السيمفونى بقيادة المايسترو الراحل شعبان أبو السعد (1926-1988) وأعيد تقديمه بنفس الطاقم يوم 5 ديسمبر فى عرض شهده الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وتم تسليم فريق العمل أوسمة وأنواط.
وبناء على معلوات أدلى لنا بها د. يحيى عبد التواب مؤرخ الباليه المصرى وأحد المشاركين فى العرض الأول أن الرواد الذين أدوا الأدوار الرئيسية بالتبادل فى الموسم ماجدة صالح ومايا سليم فى دور ماريا وعبد المنعم كامل ورضا شتا فى دور فاسلاف ويحيى عبد التواب ورضا فريد العشماوى فى دور خان جيراى وعلية عبد الرازق وديانا حقاق وودود فيظى فى دور زاريما ووجيه يوسف ومنصور نجادى فى دور نور علي وقام بإخراج العرض ليونيد لابروفسكى(1905-1967) مدير مسرح البولشوى ..وهذا للأسف لايتطابق مع مانشر فى كتيب العرض .. !!
والعمل كما شاهدناه يتكون من مشهد تمهيدى وآخر ختامى والاثنان يدوران حول نافورة الدموع عنوان الباليه والتى تمثل براعة وحرفية أبناء الأوبرا الفنيين والديكور والإضاءة والجرافيك كما سوف يتضح فى السطور التالية.
بين التمهيد والختام يأتى فصلان، الأول فى ساحة القصر والثانى يعد الجانب الدرامى الهام ويتم تقديمه من خلال ثلاث مشاهد فى حرملك قصر خان جيراى ثم فى حجرة نوم ماريا ثم المشهد الثالث ساحة قصر الخان ..
تم تقديم العمل فى الكتيب على أنه من تصميم الزائر “فالنتين بارتس” والذى سبق أن تعرفنا عليه فى باليه كوبيليا عام 2015 وذكر أنه مستوحى من تصميمات المصمم الأصلي زاخاروف وأرى اننا يجب أن نتعامل معه كمخرج للعمل حيث إن التصميمات رجع فيها للأصل تماما ولم أشعر بلمسة القرن الواحد وعشرين أو بصمته الشخصية فى الجانب الحركى بل كان تحريك المجموعات غير موفق باستثتاء مشهد الحرب و بعكس الرقصات الفردية والثنائية التى كان الراقصون فيها على درجة عالية من التفوق ..
تميز في الديكور و الإضاءة والجرافيك.
التميز الحقيقى والذى يمثل المنقذ لهذا العمل ويبعث على الفخر، ديكور محمد الغرباوى وإضاءة ياسر شعلان أما الحداثة كلها كانت فى جرافيك محمد عبد الرازق، الثلاثة كونوا نسيجا واحدا، كل منهم أعطى للآخر فرصة لإبراز الجمال والمهارة والقدرة الإبداعية فى التعبير عن الحدث مثل الفتحات التى جاءت فى خلفية القصر وظهور البهو الداخلى والسلالم والأسوار الجانبية أعطى فرصة لبيان حركة السحاب البديعة وتشكيل السماء وتنوع الإضاءة لتعبر عن المشهد .. الاحتراف والتميز والتناسق الجميل بين العناصر الثلاثة مع الملابس والإكسسوار جاء رائعا ولكن الذى خرج عن السرب كان المخرج فالنتين الذى جاءت حركات المجموعات على المسرح غير موظفة توظيفا جيدا مع الديكور بل أحيانا كانت تمثل زخما غير مبرر على عين المشاهد كما أنه مال إلى حد كبير لحركات البانتوميم التى تعد من سمات العرض لكن هى أيضا كانت فرصة سانحة له يستثمرها لإضافة تصميم يتماشى مع الموسيقى ولا يخرج عن سيناريو العمل الكلاسيكى وهذا لم يحدث..
من أهم مشاهد هذا العرض النافورة والتى من خلال جرافيك الفنان القدير محمد عبد الرازق جاءت حركة الدموع عليها متقنة ومعبرة ومتناسقة ليس فقط مع الإضاءة والديكور وإنما مع الموسيقى أيضا ..
الموسيقى والمايسترو
ومفاجأة هذا الحفل كان المايسترو الشاب أحمد فرج والذى يقود العمل لأول مرة جاء متميزا وباعثا أيضا للفخر لقد قدم العمل بأمانة ودقة وتفسير جيد وحافظ على مميزاته حيث هناك فى الفصل الأول العديد من موسيقى الرقصات الشعبية التى يشتهر بها شرق أوروبا مثل الكراكوفيان والمازوركا والبولنيز والتى تتنوع إيقاعتها بين النشاط والهدوء بالإضافة لموسيقى الحرب الصاخبة التى تعبر عن هجوم التتار والتعبير موسيقيا عن المواقف الإنسانية المتناقضة التى برع فيها الموسيقار اسافيف مثل مشهد رقصة الحب بين ماريا وفاسلاف والكره والغضب منها تجاه الخان والغيرة القاتلة من زاريما مع الحفاظ على إبراز التمايل فى رقصتها أثناء محاولتها إغراء خان جيراى والتى رغم بروزها فى الموسيقى لم تظهر فى الرقصة لقد كان واضحا تماما سيطرة القائد على العازفين المتمرسين على أداء موسيقات الباليهات ولكن هذا العمل تجربة جديدة أثبتت نجاحهم فى جميع المجموعات النفخ والإيقاع والوتريات وخاصة الهارب الذى له دور بارز فى الحدوتة.
لايفوتنا أن نذكر الراقصين المصريين الذين أجادوا فى الرقص طبقا لم رسم لهم حيث إمكاناتهم تعد أكبر كثيرا، وهم بالتبادل ممدوح حسن وحسن التابعى فى دور فاسلاف وهانى حسن واسلام الدسوقى فى دور خان جيراى ومحمد حامد واحمد سعيد فى دور نورعلى كما هناك مجموعات فى الرقصات الجماعية وبالنسبة للراقصات المصريات شاركن فى الأدوار الثانوية وهم رجوى حامد ونينت نظمى وآيات أحمد الجميع أدوا الأدوار بإتقان وأيضا طلبة معهد البالية وكانوا من أهم إيجابيات الحفل ولا ننكر نجوم الفرقة الأجانب مريم كاربيتيان وفالنتينا ديوراسين فى دور ماريا وكاترينا زيبرونها وبويانا زيجاريك فى دور زاريما والذى كنت أتوقع أن تؤديه سحر حلمى وهى لا تزال تعمل ولم تعتزل والدور يلائمها تماما..!!!!
وأخيرا رغم أن العمل جعلنا نطرح بعض الأسئلة منها أين الباليرينا المصرية ؟ ولماذا لا يتم النظر بعين الاعتبار لأولادنا من المصممين والمخرجين المصريين؟ إلأ أن إنتاج عمل جديد وتنشيط الذاكرة بأمجادنا فى بدايات فن البالية فى مصر يستحق التقدير لأرمينيا كامل مديرة الفرقة وطاقم عملها ويعد نقطة مضيئة تحسب للدكتور مجدى صابر رئيس الأوبرا.