يكتبها- وليد شاهين
أول نقيب للقراء ومحفظى القرآن الكريم
صاحب حنجرة ذهبية.. وشهرته بدأت من السيدة زينب
استقبلته الدول.. استقبال الملوك والرؤساء
الشيخ عبد الباسط عبد الصمدأحد أهم الذين لمعوا بقوة فى دنيا قراءة القرآن الكريم، حيث تبوَّء مكانة رفيعة بين أصحاب الأصوات العذبة والنغمات الخلابة، وطار اسمه شرقاً وغرباً، واحتفى الناس به فى كل مكان نزل فيه، فهو أحد أصحاب المدارس التى تفردت فى أسلوبها.
لقب بالحنجرة الذهبية، كما أنه صاحب النصيب الأكبر من الشعبية والحب الجارف بين جموع المسلمين على مستوى العالم.
ولد الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد سليم عام 1927 بقرية المراعزة التابعة لمدينة أرمنت فى محافظة قنا بصعيد مصر، حفظ القرآن الكريم صغيراً وأتمه وهو دون العاشرة من عمره على يد الشيخ “محمد الأمير” شيخ كُتَّاب قريته، ثم تلقى علم القراءات السبع على يد الشيخ “محمد سليم حمادة” بعد أن حفظ على يديه متن الشاطبية، وكان شيخه معجباً بعذوبة صوته وبنضارة ودقة التحكم فى مخارج الألفاظ والوقف والإبتداء، كما وجد فيه نبوغاً مبكراً، حيث صحبه إلى الحفلات التى يدعى إليها ويدعوه للقراءة والتلاوة وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة.
بدأت شهرة الشيخ عبد الصمد فى صعيد مصر مع إحياء ليالى شهر رمضان الكريم، خاصةً فى جميع مدن وقرى محافظة قنا، وقد كان الشيخ “عبد الباسط” مغرماً بصوت الشيخ “محمد رفعت”، حيث كان يقطع عشرات الكيلومترات ليستمع إليه من المذياع، وكان دائماً يترنم بتلاوة الشيخ رفعت.
نشأ الشيخ فى كنف عائلة قرآنية تهتم بحفظ كتاب الله وتلاوته وتجويده، وكان هذا أمراً مشهوداً لعائلته من جده مروراً بوالده الذى كان يعمل بوزارة الأوقاف، وصولاً بأخوية محمود وعبد الحميد.
ذاعت شهرته عام 1950 عندما ساقته الأقدار ورغبته الجامحة لزيارة مقام السيدة زينب بالقاهرة، حيث أتت هذه الزيارة فى اليوم قبل الأخير لمولد السيدة زينب، والذى كان يحيه عمالقة القراء والمشاهير آنذاك، كالشيخ عبد الفتاح الشعشيعى، والشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ عبد العظيم زاهر، والشيخ أبو العنين شعيشع، وغيرهم من قراء الرعيل الأول بالإذاعة، وبعد انقضاء منتصف الليل والمسجد الزينبى ممتلئ بجمهور المستمعين استأذن أحد أقارب الشيخ “عبد الباسط” القائمين على الحفل لكى يقدم لهم هذا الفتى الموهوب ليقرأ لهم 10 دقائق؛ فأُذن له، وكاد الشيخ “عبد الباسط” أن يعتذر عن عدم القراءة لولا أن شجعه إمام المسجد الشيخ “على سبيع” وكان يعرفه من قبل، فأقبل يتلو من سورة الأحزاب بدءاً من قوله تعالى: “إن الله وملائكته يصلون على النبى، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما”، وفتح الله عليه وأصبغ عليه من نعمه فكأنه لم يقرأ من قبل بمثل هذا الأداء؛ فجذب إليه الأسماع وأرهفت القلوب وخشعت لتلاوته وسيطر صوته الندى على أنفاس الحاضرين، فأقبلوا عليه وهم لا يصدقون أن هذا صوت رجلٍ مغمور، ساقته الأقدار إليهم بصوته الشجى الذى يحمل معه النور.
تقدم الشيخ “عبد الباسط” إلى الإذاعة للاعتماد بها عام 1951 وتشكلت له لجنة من كبار العلماء وكان من بينهم الشيخ “الضباع” شيخ عموم المقارئ المصرية، والشيخ محمود شلتوت قبل أن يتولى مشيخة الجامع الأزهر، والشيخ محمد البنا، فانبهر الجميع بالأداء القوى العالى الرفيع المحكم المتمكن، وتم اعتماده قارئاً بالإذاعة وكانت أول تلاوة له من سورة فاطر.
بلغت شهرته الآفاق وذاع صيته مع قراءته الأولى فى الإذاعة، وتم تخصيص وقت له فى الثامنة من مساء كل يوم سبت، ليكون أحد النجوم اللامعة والكواكب النيرة المضيئة بقوة فى سماء التلاوة.
انتقل الشيخ بأسرته إلى القاهرة وأقام فى حى السيدة زينب، ثم تم تعيينه عام 1952 قارئاً للسورة فى مسجد الإمام الشافعى، ثم قارئاً فى المسجد الحسينى خلفاً لزميله محمود على البنا، وذلك عام 1985، وقبل هذا التاريخ بعام سعى الشيخ إلى إنشاء أول نقابة للقراء ومحفظى القرآن الكريم، وانتخب كأول نقيب لها.
سافر الشيخ “عبد الباسط” إلى العديد من دول العالم خاصةً فى شهر رمضان بدعوات من شعوب وحكام الدول ليصدح بصوته فى أرجاء الدنيا نوراً وهداية، وكان يتم استقباله فى تلك الدول بحفاوة بالغة، تصل أحياناً إلى الاستقبال الرسمى الخاص بالرؤساء والملوك كما فعل معه الرئيس الباكستانى الذى حرص على استقبال الشيخ فى أرض المطار، وصافحه بعد نزوله من الطائرة، كما خصصت له دولة جنوب إفريقيا أثناء زيارته لها فريق عمل إعلامى لإجراء لقاءات معه.
قرأ الشيخ القرآن الكريم بأكبر مساجد جاكرتا بدولة أندونيسيا؛ فامتلأت جنبات المسجد بالحاضرين وامتد المجلس خارج المسجد لمسافة كيلو متر مربع، فامتلأ الميدان المقابل للمسجد بأكثر من ربع مليون مسلم يستمعون إليه حتى مطلع الفجر.
ومن أشهر المساجد التى قرأ بها القرآن، هى “المسجد الحرام بمكة المكرمة، والمسجد النبوى الشريف بالمدينة رسول الله” حيث سجل هناك عدة تلاوات، لقب بعدها بصوت مكة، كما قرأ بالمسجد الأقصى المبارك بالقدس الشريف، والمسجد الإبراهيمى بالخليل بالأراضى المحتلة، والمسجد الأموى بدمشق، إلى جانب عدد كبير من المساجد فى دول شرق وجنوب ووسط آسيا، وأوروبا وإفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية.
منح الشيخ وسام الاستحقاق من سوريا عام 1956، ووسام الأرز من لبنان، والوسام الذهبى من ماليزيا، ووسام من السنغال، وأخر من المغرب، وكانت أخر الأوسمة التى حصل عليها كانت بعد رحيله تسلمها أحد أبنائه عام 1990 فى احتفال الدولة بليلة القدر.
ترك فضيلة الشيخ للإذاعة ومحبيه فى أرجاء الدنيا ثروة من التسجيلات، إلى جانب المصحفين “المرتل والمجود” بالإضافة إلى تسجيلاته بالقراءات السبع ومع الأربعة العظام المشايخ “محمود خليل الحصرى، ومصطفى إسماعيل، ومحمد صديق المنشاوى، ومحمود على البنا”.
توفى الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يوم الأربعاء 21 من ربيع الآخر 1409 من الهجرة، الموافق 30 ديسمبر 1988 بعد صراع طويل مع مرض السكرى، علاوةً على إصابته بالالتهاب الكبدى، بعد أن ملأت الدنيا بصوته العذب وطريقته الفريدة.