بقلم : أحمد محمد عبده
—————————
نبيل مصيلحي صوت شعري له قاموسه الخاص به, قاموس مفردات يُنتج قاموس معاني ودلالات تتماهى مع روح الشاعر, مثقف أنتج إبداعاته في مجموعة دواوين, وبعض الكتب الفكرية والنقدية, والترجمات لحياة بعض الأدباء, ورصد الحركة الأدبية في الشرقية تحديدا, وهو يقود قافة تثقيف, تتمثل في نشاطه الصحفي, وندوات لنقد الإبداع والفكر.
ونقف الآن وقفة سريعة انطباعية, مع ديوانه ” سكة الصابرين”, من إصدارات اتحاد كتاب مصر لعام 2019, طبع ونشر دار الإسلام بالمنصورة.
همه الوطني يظهر جدا في كل دواوينه, نغمة الألم الذاتي هي توجعات الوطن بلا تصريح, هو العازف والربابة والكلمات, وأخص الربابة دون غيرها من آلات الموسيقى لدلالتها التي لا تخفى على أحد, ربما العزف الرئيس عزف رباب على صوت ” ساقية بتنزح عطش”, وصوت” ناس بترضع من حليب الدم”, لكنك ستجد المنظومة وقد عزفتها مجموعة وتريات فيها ” الكلمة بنت بنوت حلّت ضفايرها/ عشقانة روح الصبح بتفتح الشبابيك”, وتريات غير مشدودة, هادئة, بهدوء عازفها, لا تشنج فيها ولا صراخ, سنسمع الأنين والبكاء والتباكي دائما, وابتسامة الأمل في أحيان كثيرة.
أشعار ديوان “سكة الصابرين” تكاد تكون هي مفتاح شخصية نبيل مصيلحي, معزوفة ألم وأمل في آن واحد, والعنوان هنا علمٌ على روح قصائد الديوان ” 29 قصيدة”, فمن المُفتتح حتى آخر قصيدة, راح الشاعر يرسم سكة للصابرين, يصفها ويرسمها ويجسدها, ويضع لها ” اللوكيشن” إن صح التعبير, فهو خبير بالبوصلة, والأنين والبكاء والابتسام, وكل هذا لم يصنع غشاوة على شاشة هاتفه” شِعري اللي كان السيف وقت المِحن بتار/ أصبح أثر أمجاد فوق الورق مصلوب”, فسرعان ما يخرج من حالة فقدان توازنه ” والَّا أكون منتهى للغربة والحواديت/ لسه المصير فيّا ما صابه سهم الخوف/ ولا ركعت لغيم ولا سجدت لديب/ إزاي تكوني في دمي واسلمك للموت”.
تصاحبنا هذه النغمة الثنائية حتى آخر قصيدة في الديوان” معرفش ليه الفجر من ليلي ما طلِّش/ ولا شقشقت صبحية/ ترميني بفراقها/ مكتوب عليَّ السفر/ في خيال مالوش مينا”, ولأن الشاعر هنا طاقة إيجابية, لذا ينتابه شعور بالتحدي” المستحيل أركبه في بواقي أحلامي/ يمكن أعيش فرحتي/ على ضهر حدوتة”.
ومن حالات التباكي, حينما يعن له خاطر الثورة المُجهضة” لا ميدان ح ينده ع الربيع/ مات البريق والدفا من عين شعاع الشمس”, وسرعان ما ينتبه لمنهجه في إجهاض اليأس,” مش ناوي أكون زيكم/ يا شانقين ضيكم/ في مناسك التوابيت/ هاكتب وأقول واصرخ يا بشر قوم انتهج نهجي/ تعرق وتسقي الضيا في الشقوق الحلم/ الحلم ما هو صعيب مد البصر شوفه”
من يعيش في أجواء الفوضى والعشوائية والظلم؛ يشعر بأن قصائد الديوان مكتوبة من أجله, ومن يعيشون تجربة الحرب العبثية, في الخيام, أو على مراكب الغرق, يشعرون أنها مكتوبة من أجلهم, أشعار الديوان أشعار “لعالم ثالث” لا يريد أن يغادر أرض البؤس, ونحن الذين قلنا ـــ عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير ـــ أن خطاب ولهجة شعر “العامية بالتحديد”, لا بد ستخرج من نغمتها البائسة في معظمها, وتبحث عن نغمة أخرى, أكثر تفاؤلا, أكثر ملاحقة لخطوة زمن جديد, أكثر انفتاحا على الحياة.
**
ودائما سيكون, وعند جميع الشعراء تقريبا, يصير خالد ابن الوليد وصلاح الدين وعنترة, هم أيقونة الحزن والحلم والتباكي العربي!” جواك ياخالد جدع ما يهاب صليل الموت/ ولا يعتريه الخوف”, ” الوهم شيء ما يعرفوشي صلاح/…/ تعابين تحوطه من ثنايا الكون/ ولا همهوش الليل يجيب في حشاه”, ” جربت اكون عنترة/ أضرب واطيح فيهم في كل درب/ ما لقيتش سيف وحصان”
امتلأ عالم الشاعر بعوامل اليأس والإحباط” حكاوينا بقت في القلب ضُليلة مابتضللش/ وشجرة هزها أمشير/ فخلعت توبها عريانة/ أيام حبله بالتوهان”, فيجري نحو الجدة يستدعيها, حنين للماضي, كي تعيد له زمن حكايات الفرح والأمل والحب ” كفاية الحزن ياجدة/ وعودي من زمان الشهد/ كفانا حِداد/ أنا مستني ياجدة حكاويكي/ تعود بنا لغيط النور/ تفلفل تربته في الشمس/ ونبدر سنبلات الروح”, أيضا دائما “يوسف” هو أيقونة الخير والنماء” في الزمن الضنين”…” سنابل فيها روح يوسف”.
ونلاحظ هنا خبرة الحياة عند الشاعر في ” تفلفل تربته في الشمس”, وهو تعبير الفلاح المصري.
ثم يذهب لنموذج آخر, يستدعيه من الماضي, لعله يهتدي به في عالمه المشوش” أبويا كان مالوش في اللف والدوران/ وكان على أد موَّاله.. وانا زيُه”, وجاءت “كان” لتؤكد زمن الأب, الحلم المأمول.
كمية الأمل والحب, والحلم الجميل والإصرار على مقاومة البغض والكراهية؛ تكاد تغطي على بكائيات الشاعر, يظهر هذا في الصورة البديعة ” هات إيدك.. إجعل كفينا يتلاقو ف حضن/ حضن الأحبة دفا ما يرفضه الكف/ شبِّك صوابعك.. ضَفّرها في صوابعي”, وأعتقد أن العامية تقبل جمع الكفَّان في “كفوفنا”, بدلا من “كفينا”.
ويلجأ الشاعر لتمثل أشياء من الطبيعة, يرى أن لها دلالة مع حالته, بل تتماهى معه, فمره هو شجرة صبار” واخد كتير م الشبه من شجرة الصبار/ عوده كعود الحطب لكنه عود خزران/ لكن زمانه مجاش”, في الشطرة الأخيرة, يُضمنها بتمثل آخر مُضمر, فهو هنا المُخلِّص الذي لم يأتِ زمانه بعد, ويتكرر المعنى في موضع أخر” الوقت مش وقتي جوه المتاهة الوهم”, أيضا أرى أن وضع “خرزان” بدلا من خزران “, وهي المتداولة بين العامة.. أرق إيقاعا.
وكما قلنا أن الطاقة الإيجابية في ديوان نبيل مصيلحي, تكاد تطرد هواجس القلق والإحباط ” أنا ح امشي جوّايا مهما الطريق اشتكا”… ” بلاش تسلم للوجع”…” ” وافْرد شراع مركبي يمشي بمزاج ريحي”… ” وركبت فجري حصان/ وغمزته قام يصهل/ ح نشق ليل العتم للمجروحين سكه”…” أرواحنا فينا شموس ح نسوقها قدامنا/ تمحي الضلام وجحافله / من سكة الصابرين”
وهكذا على طول الديوان, تشق أشعار نبيل مصيلحي طريقها, طريق على جانب منه أشجار السنط, وعلى الجانب الآخر أشجار البونسيانا.
ــ