صلّى عم آدم العشاء جماعةً في “الزاوية الوسطانية” على الضفة الشرقية للنيل، وهي زاوية بسيطة البناء لا تكَلُّفَ فيها، مبنيِّةٌ بالطوبِ اللبِن ومطليّةٌ جدرانُها بالجِص، ومسقوفةٌ بجريدِ النَخل وعَبَلِ القطن الجاف ومفروشةٌ بحُصُرِ الحلفاءِ الباليةِ وقد تنثَّرَتْ أعوادُها فكانت تتركُ على الثياب والأبدانِ آثاراً يُعرفُ بها المصلُّون، ولها شباكان يطلان على النيل الجاري ومدخلٌ واحدٌ يفتحُ جهة الطريق الترابي المتعرِّج أمام حقولِ الذرة الممتدة.
تمتمَ الرجلُ العجوز وهو يخطو خارج المُصلَّى “اللهم افتح لي أبوابَ رزقك”، ووضع خفيه على الأرض ثم دسَّ فيهما قدميه المشققتين على مَهَل. ولما اطمأن إلى موضعهما حمَلَ حِزمةَ البرسيم التي تركها أمام المُصلَّى ومضى في سيره الوئيد صوبَ داره الواقعة في عمق القرية.
وفي الطريق دارت في رأسه الآياتُ التي تلاها إمامُ الزاويةِ ذو الصوتِ الرخيم “وأذِّن في الناسِ بالحجِّ يأتوك رجالاً وعلى كلِّ ضامرٍ يأتين من كلِّ فجٍّ عميق”. وتذكَّرَ أمنيةً طالت ولم تتحقق! أمنيةً بذلَ في سبيل تحقيقها الغالي والنفيس فباعَ أرضه لشقيقيه علَّ يمنحانه ما يبلِّغُه وجهتَه، ولكن أنَّ لمالٍ وصله بالتقطيعِ على مدار سنواتٍ سبعٍ عجافٍ أن يعينَه على رحلته! ضاعت الأرض وأُنفِقَ المال وضَعُفَ البدن ولا حول ولا قوة إلا بالله. رفعَ رأسَه إلى السماء وهو يحملُ الحزمةَ فوقَ ظهره المحني وهمسَ راجياً “يا رب”.
*****
بعد ساعةٍ كان عمُ آدم وزوجته يجلسان إلى خوانٍ خشبي عليه رغيفٌ شمسيٌ كبير وطاجنٌ من القشدةِ وصحنٌ فيه عسل. وكانت وداد تأكلُ في بطءٍ وصمتٍ يتناسبان مع سِنِّها التي تجاوزت الخمسين بقليل، بينما لم يَمُدْ الشيخُ الذي يكبرها بعَقدٍ كاملٍ يدَه ولم يتناولْ لقمةً واحدة. حدّجَته بنظرةٍ مستفهمةٍ قبل أن تدفعَ نصفَ الرغيفِ تجاهه وهي تقول مازحةً:
– ما لكَ يا آدم؟! عِفتَ أكلي يا رجل؟!
فارتسمتْ على وجهه المُتغَضِّنِ ابتسامةٌ رائقةٌ حمَلَتْ طيبةَ عقودِ عمره المنصرمة فتشجعت وداد وكَسرتْ قطعة خبزٍ وغمستها في القشدة ثم مررتها في صَحنِ العسل قبل أن تضعها في فمه وهي تقول بدلالِ العجائزِ:
– سُـقتُ عليك النبي ألاَّ تردَ يدي!
فقال بحبٍ “صلى الله عليه وسلم” وأكلَ من يدها ثم لثمَ كفها ممتناً. هي زوجته المخلصة ورفيقة دربه الحانية. ولما ازدرد اللقمةّ لانت قسماته وسكنت نفسه فقال مفضفضاً بعد تنهيدة:
– اشتقتُ للحَرَمِ يا وداد، وما عاد لي صبر! ما عاد لي صبر!
وترغرغتْ عيناه بدمعةٍ منعتها رجولتُه أن تسقط، فربتت هي على ظهر يده الذي كرمشه طول العملِ في غيطانِ الخلق، ثم سألته سؤالَها المعتاد كلما عاوده الحنين إلى بيت الله الحرام:
– أكلُّ هذا حبٌ يا آدم؟
وظنت أن يأتي ردّه متوقعاً كالمعتاد فيستفيض في شكوى حنينه ولوعة اشتياقه لمكة والمدينة وبركة الكعبة المشرفة حتى يسكنَ وجيبُ قلبِه المحرومِ وتهدأ نفسه الملتاعة فيطيبُ خاطره لينام، لكنه فاجأها هذه المرة بردٍ لم تتوقعه لدرجةً عَقَدَت لسانها فلم تُحِر جواباً.
فقط قال الشيخُ الكبير:
– وكيف لا أحبُه؟!
وتطلعت في عينيه اللامعتين وثبَتَتْ نظرَها على دمعتِه المتحجِّرة .. ثم بكت هي نيابةً عنه.
*****
استيقظت وداد على صوتِ قرآنِ الفجرِ يردد صداه ليلُ القريةِ الساكن. كانت مشرقةَ كصبيةٍ في العشرين، وكانت تبتسمُ وصدرُها يعلو ويهبطُ بأنفاسها المتسارعةِ كأنها عادت لتوها من جريٍ محموم، وعقدت كلتا يديها على صدرها فوجدت قلبها ينبض بقوةٍ، فتمتمتْ ودموعها تسّاقط:
– يا بركة نور النبي .. بسم الله ما شاء الله.
وفي عجالةٍ استدارت لتوقظ الشيخَ الراقدَ بجوارها فتخبرَه بُشرى الرؤيا التي رأتها لتوها. ربتت بكفها الرقيقة على صفحة وجهه وهي تقول بحماسٍ:
– آدم .. قم يا رجل .. والله رأيتُكَ تطوفُ في الحرم .. ثم سعينا معاً بين الصفا والمروة .. قم يا حاج .. حجٌ مبرورٌ وذنبٌ مغفور!
وتتابعت كلماتها المعطّرَة وطال حديثُها المنفرِد لكنه لم يرُدْ ولم يستيقظ .. فقط كان مبتسماً وفي جبهته النَديِّةِ نورٌ قُدسيٌ..