كنا مشغولين – لسنوات طويلة – بالترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية، ولم نكن نفعل المقابل، أي أننا لم نكن نترجم من العربية إلى اللغات الأجنبية – فيما عدا استثناءات نادرة – وهو ما أدى بالضرورة لأن نتابع الإبداعات العالمية على نحو ما، بينما لم يكن العالم يتابع إبداعاتنا على أي نحو. بل إن أستاذنا الطاهر مكي يجد مأساة الأدب العربي المعاصر – سماها مأساة! – أنه لم يجد أديباً مرتفع القامة في لغته ينقله إليها، فينقله من المحلية إلى العالمية.
وغالب الظن أن أستاذنا نجيب محفوظ ما كان ليفوز بجائزة نوبل لولا ترجمة عدد من رواياته إلى عدد من اللغات الأوروبية، لاسيما الفرنسية [ زقاق المدق هي أول ما ترجم من روايات محفوظ إلى الفرنسية في 1970. تغير اسمها إلى ” زقاق المعجزات ” ]
وإذا كنا خلال تلك السنوات الطويلة في حاجة للترجمة عن، أكثر من حاجتنا للترجمة إلى، فإن التفوق المؤكد الذي حققه الإبداع العربي يفرض تغيّر هذه الصورة الثابتة، بنوع من التوازن الذي يتيح للقارئ الأجنبي أن يقرأ الإبداعات العربية مثلما يتاح للقارئ العربي أن يتابع الإبداعات الأجنبية.
الاستقبال مهم، ومطلوب، لإثراء ثقافتنا العربية، ودور الإرسال مطلوب كذلك لتقديم هذه الثقافة، فيجاوز إبداعنا استاتيكية التلقي إلى ديناميكية الانتشار. من الظلم لإبداعنا ولمبدعينا أن نحصرهم في اللغة التى يكتبون بها، لا يجاوزونها إلى متلقين آخرين، في لغات أخرى .
المشكلة أن عملية الترجمة بين الدول الناطقة بالإنجليزية أو الفرنسية، تشبه حركة الطيران التي لابد أن تتوقف في مطار تحويل، وهي المحطة التي تتبعها شركة الطيران الناقلة. الأدب العربي يترجم إلى الإنجليزية أو الفرنسية أولاً، ويترجم من إحدى اللغتين إلى لغة أخرى، والعكس صحيح.
إذا لم يكن الأدب في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية قد تحقق له التفوق الصداري، فإنه – في الأقل – في درجة مساوية لإبداعات الغرب. وللأسف فإن صورة العرب في أعين الأوروبيين ثابتة منذ القرن السادس عشر، لم يطرأ عليها أي تغيّر أو تحوّل.
من هنا كان الزعم – عقب فوز محفوظ بنوبل – أنه – محفوظ – واحة في صحراء مجدبة!.
لقد أصبحت الرواية فى أمريكا اللاتينية بعدًا مهمًا فى الرواية العالمية، لم تعد محلية التوزيع ولا التلقى، لكنها جاوزت المحلية – منذ فترة طويلة – إلى القارئ فى معظم لغات العالم، فهي تحصل على نفس فرص التلقي التى تحظى بها الروايات الأوروبية والأمريكية، بل إنها تتفوق بإبداعات بورخيس ويوسا والليندي وماركيث بما لا تخطئه العين.
فلماذا لا تحقق الرواية المصرية الإنجاز نفسه؟ هل هي السياسة، أو الترجمة، أو عوامل أخرى يجدر التنبه إليها؟
من العبث أن يحكم مشاهد التليفزيون على برامج الجهاز المغلق، أو يحكم المرء البعيد عن بلاد ومدن لم يتح له رؤيتها. لاشك أن الآخر لن يحدد قيمتي إلا إذا قرأ لي، وهو لن يقرأ لي إلا إذا ترجم إبداعي إلى لغته، وتظل المحلية والعالمية مجرد تسميتين لا قيمة فعلية لهما.
تمنى الكاتب الأمريكي جون فاولز أن يكون فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، ثقبًا فى الستار اللغوي الحديدي الذي يحول دون وصول الإبداعات العربية إلى القارئ في الغرب. وقد صدرت ترجمات لمحفوظ، ولعدد آخر من مبدعي الأجيال التالية، لكن الجدار الصلد ظل على تماسكه، فلم يتحقق تأثير فعلي كنا نأمله.
إن الصينية واليابانية لا تقلًان صعوبة عن العربية، بل إنهما تزيدان في صعوبتهما عن العربية. مع ذلك، فإن الإبداعات الصينية واليابانية تجدان رواجًا مؤكدًا على المستوى العالمى. كتب طاغور بالبنغالية، لكنه استطاع أن يتخطى أسوار المحلية، ويفوز بأرفع الجوائز، والميزة التي يمتلكها الأديب العربي أنه يكتب بلغة ” منتشرة “، فعشرات الملايين ينطقون العربية، والمفروض أنهم يقرأونها أيضًا.
ولا شك أن الطموح ميزة إيجابية، وليس عيبًا سلبيًا، لكن هذا الطموح يجب أن يوضع فى إطار الموضوعية. إن كل محاولاتنا يجب أن تستند – أولًا – إلى الأرضية العربية، وأن تعكس صورة الحياة في بلادنا، وبقدر صدق الصورة وعمقها، فإنها تستطيع التأثير في القارئ الأجنبي.
لقد ترجمت إبداعات أوروبية وآسيوية وإفريقية وأمريكية لاتينية إلى لغات مختلفة، فأحدثت تأثيرًا بالغًا في قراء تلك اللغات، بينما لم تحقق التأثير ذاته إبداعات مهمة لأدباء عرب.
السبب – في تقديري – أن الإبداعات العربية لم تعبر عن خصوصية، إنما هي تأثر واضح بإبداعات أوروبية.
أفاد أدباء أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا من بيئاتهم، من الموروث الشعبي والقيم والعادات والتقاليد وسلوكيات الحياة اليومية، عبّروا عن ذلك في إبداعاتهم، فجاءت مضمخة بعبق البيئة، بالخصوصية، بالبيئة المتميزة. أما إبداعاتنا العربية، فلعلي أذكر ما قاله لي أستاذنا حسين فوزي عن “نهر الجنون” لتوفيق الحكيم. إنها قد تحسب لطالب أوروبي في المرحلة الثانوية، وإن فرض التحفظ نفسه في انتشارها في المكتبات، لكن من الصعب أن تكون ” نهر الجنون ” تعبيرًا عن موهبة طال تمرسها.
في رأيى – بالنسبة لهذه النقطة الأخيرة تحديدًا – أن الأدب العربي سيظل ظاهرة اجتماعية، أو حضارية، مادام المستشرقون هم الذين يتولون دراسته وترجمته. ولصديقى الراحل عبد اللطيف عبد الحليم تجربة عاشها في أثناء وجوده بأسبانيا، فقد حاول أن يعثر على نسخة من أيام طه حسين أو عودة الروح للحكيم، فلم يجد شيئًا، ذلك لأن الترجمات من الأدب العربي – والقول لعبد اللطيف – تتم فى دائرة محصورة لا تتعدى أقبية المستشرقين إلاّ نادرًا، وتتم طباعة المترجمات في دائرتها، والكميات المطروحة منها لا تتجاوز الألف نسخة!. وقد أصدرت دارنشر إيطالية ترجمة في جزءين لمختارات من القصة العربية القصيرة، فى طباعة فاخرة، لكنها محدودة النسخ، فهي لا تزيد عن 500 نسخة فقط، مجرد ترجمة للدراسة، أو للإهداء.
أدبنا العربي يجب أن يجاوز الحدود، بلا تأشيرات يمنحها له المستشرقون، لأن الاستشراق – إلى الآن – يعني بدراسة ظاهرة لم يتح لها الانتشار، ويجب ألًا يظل أدبنا العربي أسير تلك النظرة.
المؤسف – بالنسبة لترجمة الأدب العربي – أن المترجم الأجنبي هو الذى يختار. مبعث الأسف هنا أن المترجم لا يختار إلا ما يبحث عنه، إنهم يريدون الشرق الذي صنعه المستشرقون، شرق الفانتازيا وألف ليلة وليلة والبساط السحري ومصباح علاء الدين والجوارى والخصيان والمؤامرات والقتل بلا سبب والعدوانية والفقر والتواكلية وقهر المرأة ووضع المرأة في الطبقات الأدنى، وغيرها من مظاهر التخلف. ما يعنيه – باختصار – هو ما تسعد بالتقاطه عدسة السائح. إنهم يريدون الأعمال التي تقدم الطريف والمشوق. ويروي الأديب الجزائري واسيني الأعرج أن بعض الروائيين ذوي الأصول العربية الذين يكتبون بالفرنسية، ألفوا إعادة دور النشر أصول رواياتهم ليضيفوا إليها توابل تتيح لها حظًا أوفر من الرواج، مثل مشاهد العلاقات الزوجية، والسحاق، واللواط، والختان، وحياة الحريم، إلخ.
أما الأعمال الفنية المتفوقة، فإن شحوب فرصتها في الترجمة يضع صورة الأدب العربي في الخارج أمام خسارة مؤكدة!.
أذكر أن أستاذنا نجيب محفوظ اقترح إنشاء مؤسسة تابعة لجامعة الدول العربية، تتولى ترجمة الأعمال الأدبية من العربية إلى لغات العالم.
ولا شك أن الجهد العربي في عمليات الترجمة، يكفل صدور ترجمات أمينة من الأعمال الأدبية العربية، وفق استراتيجية تضع تصورًا بانوراميًا للأعمال التي ينبغي ترجمتها، واللغات التي تترجم إليها، بحيث لا تتكرر مأساة الناشر الألماني الذي حاول تشويه صورة الأدب العربي – وأدب الفائز بنوبل على وجه التحديد – فعهد بترجمة أعمال كاتبنا الكبير إلى مترجمين لا تجاوز إسهاماتهم ترجمة المراسلات التجارية مثل رسائل التصدير والاستيراد، وغيرها.
الترجمة ” روح “، نقل للتجربة الإبداعية بكل تفصيلاتها وإيماءاتها وألوانها وظلالها. ليست مجرد وضع الكلمة الأجنبية في مقابل الكلمة العربية. أذكّر بقول جابرييل جارثيا ماركيث عن أعماله التي ترجمت إلى الإنجليزية: ” لو أننى كنت أكتب أعمالي باللغة الإنجليزية، لما كتبتها بطريقة أبدع من جوردي راباسا المترجم “.
ولعلنا نذكر أن باسترناك هو الذي ترجم شكسبير إلى الروسية، وهو ما فعله في الأسبانية الشاعر الأسباني الكبير خوان رامون خمينيث. كما ترجم ألف ليلة وليلة إلى الأسبانية أهم روائيي أسبانيا في النصف الأول من القرن العشرين بلانكو إيانييث. وثمة رأي لأحد النقاد الأمريكيين حول ترجمة الشاعر الفرنسي الأشهر بودلير لأعمال إدجار ألن بو. قال:” لدينا كاتبان يدعوان ألان بو، أمريكي عادي جدًا، وآخر فرنسي عبقري”!
الترجمة من – وإلى – لغة ما، ينبغي أن تخضع لتصور عام، استراتيجية تراعي الأولويات وعدم التكرار. وفي غياب تلك الاستراتيجية، تتحول عمليات الترجمة – وهي هكذا الآن بالفعل – إلى فوضى.
كان للجامعة العربية – فيما أذكر – إدارة للثقافة، لا أعرف عنها الآن، ولا عن نشاطها، شيئًا محددًا، لكن تلك الإدارة تكفلت – لأعوام طويلة – بإصدار ترجمات راقية من روائع الأدب العالمي إلى العربية، ومن العربية إلى لغات العالم.
لماذا لا تستأنف اللجنة – إن كانت قائمة حتى الآن – ذلك النشاط المهم، القديم؟.
التكامل الثقافي خطوة لازمة في سبيل التكامل العربي بعامة، ومن مكونات التكامل – فيما أتصور – ذلك البعد الهام: الترجمة، فلا تنفرد كل دولة – فضلًا عن دور النشر – بجهد الترجمة من – وإلى – لغتنا الجميلة، ولا يتكرر إصدار أكثر من ترجمة لعمل واحد، فى حين أن أعمالًا أخرى – لعلها أكثر تفوقًا – تنتظر التصور البانورامي لعملية النشر، والذي يخطط لمشروع مكتبي متكامل، سواء بالترجمة من لغات العالم إلى العربية، أو من العربية إلى لغات العالم.