أكره لغة المنافرة، تبرئة الذات من المعايب مقابلًا لإلباسها الآخرين. من يتابع لغة الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي في الغرب سيلحظ أنها تستعيد لغة المنافرة التي غابت عن حياة العرب منذ 1443 سنة!
بعيدًا عن الصواب والخطأ، الحق والباطل، صدق الادعاءات وزيفها.. بعيدًا عن ذلك كله في الحرب الروسية الأوكرانية، فإن التعاطف الإنساني هو السمة التي تداخل كل من شاهد – عبر قنوات التليفزيون – فرار مئات الألوف من المدن الأوكرانية إلى خارج الحدود.
لكن المفارقة التي تدعو إلى التأمل: أوروبا التي أعلنت ترحيبها باستضافة لاجئي أوكرانيا، ورصدت لرعايتهم مليارات الدولارات، هي أوروبا التي تركت الإفارقة والآسيويين طعامًا للبحر، ومن ينجو بحياته وجد حرس الحدود في انتظاره، يودعونه معسكرات الاعتقال، ثم يعيدونه إلى بلده.
حين سئلت مراسلة قناة nbc عن الترحيب البولندي باللاجئين الأوكرانيين، مقابلًا للمعاملة البشعة التي قاساها لاجئو سوريا والعراق على أيدي قوات الأمن في العديد من دول أوروبا. أجابت المراسلة: هؤلاء ليسوا من سوريا، هؤلاء مسيحيون، ومن ذوي البشرة البيضاء.
إذا ابتعدنا عن ملابسات السياسة، وقصرنا كلامنا على الجوانب الإنسانية، فإن مشاعرنا ترضي عن المبادرات الطيبة للولايات المتحدة ودول الغرب، بما فيها دول أوروبا الشرقية التي صارت – منذ سقوط الاتحاد السوفييتي – جزءًا منه.
أتأمل القاعة االممتلئة باللعب ووسائل التسلية والترفيه، ينشغل فيها الأطفال الأوكرانيون – بإشراف متخصصين نفسيين – عن الأحداث التى أفلتوا من ويلاتها. أحاول تناسي صورة الطفلة السورية – في الشتاء القارص، الحالي – وسط صقيع المخيم، تجيب عن السؤال: ماذا تتمنين؟. تقول: خيمة!
وأترك لك وصف مشهد منع الأفارقة والآسيويين من ركوب القطار حتى يصعد – أولًا – ذوو البشرة البيضاء.
حكومة الدانمارك.. أعلنت أنها تدرس عدم تنفيذ قانون أصدرته في 2016 قانونًا يقضي بمصادرة الذهب الذي تزيد قيمته عن 1600 دولار من طالبي اللجوء إليها، كان المستهدف من القانون لاجئو الحرب الأهلية في سوريا. سبب الدراسة – كما أعلنت الحكومة الدانماركية بالفم المليان – فتح الأبواب أمام اللاجئين الأوكرانيين دون عقبات. القانون يبين عن استغلال بشع، وتطبيقه على جنسيات، ورفعه عن جنسيات أخرى، إدانة واضحة للعنصرية الغريبة التي أفلحت أزمة الحرب الأوكرنية في كشف أقنعتها.
أستأذنك في أن أنقل لك فقرات من عبارات المنافرة – لا يحضرني تعبير آخر – التى طفحت بها وسائل الإعلام والاتصال الاجتماعي الغربية عن المعاملة – التي نقدرها–للاجئي أوكرانيا، يرحب المسئول البلغاري باللاجئين الأوكرانيين بالقول: إنهم ليسوا من اللاجئين الذين اعتدناهم، لذا فنحن نرحب بهم. هؤلاء أوروبيون أذكياء ومتعلمون، ولا يملكون ماضيًا غامضًا.
إذا تجاوزنا التعبير الخائب عن الماضي الغامض، فإن الأجدر به – بكل المواضعات – هو أوروبا، التي تعتنق ديانات أشرق فجر نورها في هذه المنطقة التي تعتز بأنها كانت مهدًا للديانات السماوية، بينما يتحدث التاريخ الأوروبي – التاريخ الذي كتبوه – عن همجية القارة الأوروبية آنذاك.
لعل تلك الهمجية كانت إرهاصًا بإطلاق الرصاص – منذ أشهر قليلة – على طالبي الهجرة من مواطني سوريا والعراق.
ويبدي مراسل cbs الأمريكية تأثره لأوضاع اللاجئين في الملاجئ: رباه، هذا ليس العراق ولا سوريا ولا أفغانستان. إنه بلد أوروبي متحضر. ويعلق مذيع الجزيرة الإنجليزية على مشاهد تزاحم الأوكرانيين في الصعود إلى القطار، فرارًا من الحرب: انظر ماذا يرتدون. إنهم ليسوا أشخاصًا يحاولون الهرب من بلادهم في الشرق الأوسط أو إفريقيا. إنهم أوروبيون. ويقول مراسل قناة bbc البريطانية: إن ما يحدث الآن يثير المشاعر. أنا أشاهد أشخاصًا اوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر يقتلون – كل يوم – بصواريخ بوتين. وكتب محرر”التليجراف” البريطانية: إنهم يشبهوننا، وهذا ما يجعل الأمر صادمًا. أوكرانيا بلد أوروبي، أهله يشاهدون نيتفليكس، ولديهم حسابات على انستجرام، ويصوتون في الانتخابات، ولديهم صحافة حرة. الحرب لم تعد تحدث في المجتمعت الفقيرة المعزولة فقط. الحرب قد تحدث لأي أحد.
في خطاب أخير له تحدث الرئيس الأوكراني عن صلة بلاده بإسرائيل. نسب إلى الأوكرانيين – متباهيًا – إنشاء الدولة العبرية، ولتأكيد انتمائه دعا الرئيس الروسي بوتين إلى مباحثات في مدينة القدس، لاستعادة السلام الغائب.
خطاب سخيف كما تري، يعيد اكتشاف جوانب مجهولة من المخططات التي استهدفت – وما تزال – أقطارنا العربية.
لن نلجأ إلى كلمات جهيرة كالقول إن أواكرنيا تشرب من الكأس نفسها التي سقتها – باعتراف رئيسها – للفلسطينيين، إنما نشير إلى أن العدوانية والعنصرية ومحاولات استلاب الآخرين حقوقهم، أمراض متوطنة في مجتمعنا البشري. بزوالها تتحقق قيم السلام والعدل والمساواة.
*