عبر أسلوب رمزي وايقاع لغوي وزمني تجتمع فيه عوامل البساطة والإدهاش، ينسج الأديب منير عتيبة قصته ( ثعبان )الصادرة ضمن مجموعة ( حاوي عروس ) القصصية الصادرة عام 2010 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في توظيف للتراث الديني والتاريخي والشعبي والأسطوري يكشف عن براعة في الإشتباك به ومراجعته وتفكيكه عبر التناص معه، معبرا عن أزمة الإنسان التي طالما لازمته منذ نزوله علي الأرض وحتي الآن، ورغبتة في التطهر من الإثم واسترجاع الخلود الذي فقده.
منذ البداية يعنون المؤلف قصته بثعبان أي ثعبان ربما ليعمم الاسم ويجرده دون تحديد مما يعطيه أبعادا ومجالا أكثر اتساعا ومعان لا حدود لها ، فالثعبان أسطورة في حد ذاتها ،أسطورة تحمل رسالتها الخاصة، اذ يرمز للخصوبة والحياة الأبدية ، وبهذا فهو يعني الخير عند ثقافات وأساطير عديدة ، كما أنه يرمز أيضا للشر كما جاء في ديانات وأساطير أخري، فهو العدو اللدود للإنسان منذ بداياته الأولي كما جاء في الاسرائيليات التي تشير إلي مساعدة الثعبان للشيطان كي يدخل الجنة ويوسوس لحواء وآدم ، فقد كانت الأفعي دائماً وما زالت رمزاً لسرقة الحياة الأبدية الخالدة من الإنسان،، وبهذا فإن العنوان افعواني بالدرجة الأولي مما يتيح ثراء لتأويلات لا حدود لها كل حسب رؤيته للنص ، وقد اكتسب الثعبان لدي البسطاء أيضا صورة ذهنية شعبية وطقسية وثراء رمزيا عبر عصور متوالية وعند مختلف الشعوب والأعراق، اضافة للتراث الديني والتاريخي والثقافي الرسمي .
أما منطقة خورشيد التي بدأ بها الراوي قصته، فهي إلي جانب موقعها الجغرافي والتاريخي تعد منطقة أسطورية لدي الكاتب فهي مسقط رأسه كما نعلم وطالما داعبها المؤلف في قصصه وأسقط عليها جل أفكاره وأحلامه في تلقائية وفطرية وخصوصية تتسم بالأصالة والإدهاش، وأذكر أنني ناقشت قصة تيتانك في خورشيد حيث حكي الراوي عن أصل المنطقة وسبب التسمية ووظف المكان و تاريخه في أحداث قصته وهو مايذكرنا بماكوندو قرية ماركيز المفضلة في قصصه وروايته مائة عام من العزلة ، والتي استوحاها من ذكريات طفولته والتي تعني بالنسبة له العالم والوطن ، مما يعطينا منبعا خصبا لذلك التأثير الذي يتغلغل في نفس الكاتب / الراوي من بيئته ، حيث تلك تكتسب ابداعاته عمقا نفسيا واجتماعيا وتاريخيا لايمكن تجاهله، فقد عمد الراوي للتأكيد علي توثيق البدايات وتوظيف اسم خورشيد من خلال الحكي ليؤكد علي أهميتها وكأنها الكون بأجمعه ، اذ انطلق آدم وحواء أصل البشرية – بعد أن طردا من الجنة – منها ليلتحما مع أسطورة أكثر غرابة وادهاشا وهي الحية والشيطان اللذان مثلا أعداء البشرية منذ القدم .
بعدها ننتقل لعمق القصة من خلال أحداث ملحمية أسطورية تذكرنا بالالياذة والاوديسا لهوميروس المطعمة بمفردات واقعية وأسطورية غاية في البطولة والغرابة، ليمزج عناصر بشرية عادية بنماذج أخري خارقة للطبيعة، ويجعل من المكان أيقونة في كل أحداثها، مثل منطقة خورشيد التي بدأ بها الراوي قصته كإفتتاحية تشير إلي البدايات الأولي للبشرية مما أعطاها بعدا تاريخيا وأسطوريا اضافة الي ترعة المحمودية، فيما يعني أننا إزاء اسلوب الواقعية السحرية وهو مارأيناه أيضا في العديد من أعمال الاديب منير عتيبة، ممايثري العمل الأدبي ويعطيه مذاقا حياتيا وأسطوريا في آن ،وأجواء مشوقة ومثيرة للغموض والتساؤل من خلال ربط الأسطورة بالواقع، فنحن في حياتنا نعيش الواقع بكل مستوياته من حب وكره وحزن وسعادة وضيق ورحابة، كما نعيش اسطورتنا الخاصة والعامة من خلال الأحلام التي نراها والمعتقدات الشعبية وعالمنا الذي يتقاسمه معنا مخلوقات غير منظورة.
يبدأ الراوي قصته بزمنية تشير إلي انتظار أهل القرية لهذا اليوم وهو يوم القيامة كما يحكي الراوي بعد تسعة عشر عاما من الإنتظار انتظار أدهم أو المخلص، وهو اليوم الذي يمثل ذروة الحدث الدرامي في القصة كلها لأنه اليوم الموعود الذي ينتظره الجميع وخاصة الشيخ الذي يحمل بدوره ارثا من الرفاعي الكبير، وهو مايؤجل الراوي أحداثه بعد أن يشحذ وعي القاري،ليسرد بعدها حكايته وحكاية بطل القصة الأسطوري أدهم، ذلك الذي يكتسب الخلود بعد أن تمكن من قتل الثعبان الضخم وانتزاع جلده ليرتديه بعد أن عاني عريا أزليا، وهوالجلد الذي يمثل البقاء والتجدد لدي الثعبان مما يعني أن يسترد الإنسان جنته التي خلقه الله فيها بعد أن حرم منها بذنبه الذي وسوس به الشيطان بمساعدة الثعبان ليمثل الأخير عدوا لدودا له وسلالة شيطانية بعد أن اتحد كليهما في أرض خورشيد .
وأدهم الذي يحمل اسمه دلالات ملحمية والذي ورث هذاالعري أو الذنب، يعده شيخه ليصبح بطلا أسطوريا، وهو يمتلك مقومات تلك البطولة ويحمل بين جنباته هما انسانيا وعداء أزليا للثعبان، فالثعبان هو أخوه غير الشقيق كما يقول الجد رغم أنه لم يفهم ذلك لكنه الأمر الذي تعرفه الأم جيدا، فنجده يستيقظ في اليوم المعلوم علي صوت الشيخ قائلا له: (حسبك حسبك! حان الآن يا ولدى وقتك!”، تلك الجملة التي تتردد في جنبات نفسه لتصبح وقودا له يدفعه لمصيره، لهذا فهاهو يتخلص من ثعابين القرية الحارسة لبيوتها وكأنه يطهرها من العدو المتربص بها والمتأصل في ذواتها في اشارة لسكون الشر داخل الانسان وتأصله فيه، بل ويخرج لمراقبة الثعبان الضخم الذي يحيط بالقرية ويمثل شبح الرعب لها، وهو الثعبان الذي خرج من بطن روحية التي تمثل الروح الجديدة والمحرك للأحدث، والتي تعرف وحدها أن الثعبان الضخم عاد لينتقم بعد أن عاقب الجد سيد سعيدة وعاقبها علي زواجهما، فيما يعده الناس في القرية أيضا عقابا الهيا بعد أن كثرت ذنوبهم وفسادهم وكراهيتهم لبعضهم البعض وبهذا يستحقون عقابا شديدا، مما تتعدد معه تفسيرات ترصد الثعبان بالقرية من وجهة نظر فردية وجماعية اضافة للسبب المتأصل داخل وجدان وعقل الطفل الذي يعد مخلصا وامتدادا طبيعيا للجد وللبشرية أيضا، مما يعطي أسبابا قوية لديه كي ينتقم ويسترد جنته .
أما الجد فهو كبير القرية والمسيطر علي مقدراتها حتي أنه يعاقب من يطأ ظله ، لأنه وجوده وشرفه وقوته وتاريخه ومكانته وكرامته كما أن ظله يمثل الماضي الذي يجثم بكل قوة علي الحاضر ويفرض سطوته، في حين الشيخ / المعلم والرفاعي والجد يمثلون الإرث الشعبي والتاريخي والديني والضمير الجمعي المعذب للبشرية ووعيها الذي نضج، والذي يدفع الطفل والصبي كي يقاتل من أجل البقاء والوجود الإنساني، وكأنه يحمل في ذاته رغبة الانسان منذ الأزل في اكتساب الاستقرار والهيمنة والخلود والتطهر من الإثم، عبر ميراث لاينتهي من الشر بكل أنواعه يتتبع الإنسان منذ خلق، وهو ما نجح فيه ادهم عبر تصوير أسطوري لتفاصيل النزاع الدامي بين أدهم والثعبان الضخم والذي ينتهي بقتل الثعبان وانتصار أدهم / الإنسان بعقله ووعيه وحيلته المتجاوزة، لكنه في النهاية يخرج للصحراء بعد أن ارتدي جلد الثعبان ليبدأ من جديد في أرض جديدة بعيدا عن آثام الناس ولعنتهم الأزلية، لينجو بنفسه وينفرد بأسطورته فيتردد صوت الشيخ مجددا ويتساءل الصبي : (وقت أينا يا مولاى؟ )، في اشارة لإنتهاء عالم الشيخ وماضي البشرية المزري وبداية جديدة للإنسانية بعيدا عن الماضي بما يحمل من خطايا وآثام .
ولقد نجح الأديب منير عتيبة عبر لغة مكثفة ذات دلالات في توظيف معاني الحية / الثعبان / الأفعي توظيفا دقيقا مما اكسب النص ثراء لغويا ومصداقية سردية تؤكدعلي وعي الكاتب، وقدرته علي معالجة النص من خلال مرجعية تناصية دينية وتاريخية وثقافية واضحة، ليضعنا جميعا أمام أزمتنا الكبري، ويعود بنا إلي أصل وجودنا من خلال مخاوفنا وهواجسنا الداخلية الأزلية المتمثلة في خطييئنا الأولي تلك الخطيئة التي شكلت تساؤلاإنسانيا وجوديا منذ القدم، ولازمت كلا منا لتتجسد في وعينا ذنبا لايغتفر علينا التطهر منه، وهو ما ألقي علي أدهم باعتباره وريثا لهذا الذنب مسؤولية الثأر للوجود الإنساني برمته .
هكذا جسدالأديب منير عتيبة في قصته ( ثعبان ) – كحلقة سردية في سلسلة نصوصه السابقة واللاحقة المتكاملة إبداعيا وفكريا-جسد قلق الأديب الدائم بمأساة الانسان وأسطورته في كل زمان ومكان، فهو حبيس الذنب والعار الذي لازمه منذ الأزل، محاولا التطهروارتداء رداء الخلود مرة أخري عبر الانتقام والولوج إلي عالم جديد بعيدا عن عالمه الذي تدنس بآثامه .