نعيش حالة من التشاحن والصخب المجتمعي غير المسبوقة.. لم يعد أحد يحتمل أحداً مع شيوع سوء الظن والنوايا وتراجع القيم المجتمعية بشكل ملحوظ ومايتبع ذلك من الفرقة بين الأصدقاء والأهل، فهل المشكلة في أخلاق الناس التي تبدلت عن زمن الآباء والأجداد أم في ظهور وسائل حديثة تساعد على زيادة الفجوة والشقاق بين أبناء البيت الواحد قبل غيرهم مثل الفيس بوك وغيره من وسائل التواصل الإجتماعي؟!
بعد تجربة لابأس بها مع وسائل التواصل، أقر وأعترف بأنها باتت مشكلة كبرى ووسيلة للتشاحن والتناحر وربما القطيعة، قد يكون الأمر مرتبطاً بصورة أو بأخرى بتغير سلوك الناس عن الماضي ومن ثم تعد وسائل التواصل كاشفة للسلوكيات وليست صانعة لها ولكنها مع ذلك ساهمت بصورة كبيرة في شيوع السلوكيات الخاطئة وتحويلها من أمور شخصية الى ظواهر اجتماعية مع حرص الكثيرين على عرض تجاربهم الشخصية بما فيها من سلبيات.
صحيح أن وسائل التواصل قربت البعيد وأعادت الحياة لعلاقات قديمة انتهت وماتت وشبعت موتاً إما بسبب سفر وهجرة العديد من الأصدقاء والأقارب وسعيهم في أرض الله الواسعة أو لانشغالنا نحن في دوامة الحياة التي حرمتنا حتى من التواصل مع أقرب الناس.. لكنه “الفيس بوك وأخواته” كان السبب أيضاً في زيادة الأمر وحدوث مشاحنات قد تنتهي بالقطيعة لمجرد الخلاف حول قضية من القضايا أو حتى لتجاهل التعليق على المنشورات وتلك قصة أخرى.
الناس في حالة من الإستنفار والشحن الزائد بصورة شبة دائمة لدرجة أنه لم يعد مسموحاً في الكثير من الأحيان بمساحة بسيطة من الإختلاف الطبيعي الذي تفرضه الطبيعة البشرية بصرف النظر عن الموضوع المطروح سواء كان اجتماعياً أو سياسياً أو رياضياَ، وضع عشرة خطوط أسفل كلمة رياضي ولاتحدثني عن الروح الرياضية أو حقي في الإختلاف، فمباراة كرة واحدة كفيلة باحداث قطيعة بين الأصدقاء.
ورغم أننا نردد كثيراً عبارة “الخلاف في الرأي لايفسد للود قضية” لكنها مجرد كلمات للإستهلاك المحلي نتجاهلها تماماً عندما يتعلق الأمر بخلافتنا نحن، فالكثير من الصداقات “الإفتراضية” أو حتى الطبيعية انتهت بسبب بوست “منشور” عن الأهلي والزمالك مثلاً لايرضي الطرف الآخر، وبعد مشاحنات ومناوشات يتم الغاء الصداقة والمتابعة أو التهديد بذلك، رغم أن الخلاف في معظم الأحيان يكون تافهاً وناجماً عن التعصب الأعمى ليس أكثر.
على أي حال لا أستطيع التأكيد على أن وسائل التواصل هي المتسبب الرئيسي في تلك الحالة التي أصابت الناس، لكنني على ثقة ويقين كبيرين بأنها مشارك أساسي فيما وصلنا إليه من شحن زائد أصاب حياتنا بالمزيد من التوتر.
***
صبي أمريكي يدعى “سلفادور راموس”من ولاية تكساس كتب منشوراً على الفيس بوك يقول فيه إنه أطلق الرصاص على جدته، ثم أضاف منشوراً آخر يؤكد فيه أنه في الطريق الى مدرسته “روب الإبتدائية” بمنطقة يوفلاد للتخلص من زملائه، وبالفعل نفذ تهديده وقتل تسعة عشر تلميذاً ومعلمتين.. كل هذا على مرأى ومسمع من أصدقائه ومع ذلك لم يبلغ أحد الشرطة لانقاذ التلاميذ.
لست بصدد تناول ظاهرة العنف والسلوك العدواني المسيطر على المجتمع الأمريكي أو فوضى انتشار السلاح بلا ضوابط ومع مختلف الأعمار، ولكنني فقط أتساءل عن دور إدارة الفيس في التعامل مع مثل هذه المنشورات، وأين الحديث الذي لايتوقف عن الحض على الكراهية الذي يصدعوننا به لمجرد أن تقول رأياً صريحاً في الكيان الصهيوني مثلاً أو ذكرت عبارات بعينها حيث سيتم حذف المنشور وايقافك عن النشر لفترة محددة.
إن ماحدث في ولاية تكساس يعد مثالاً صارخاً وتأكيداً جديداً على سياسة الكيل بمكيالين والتعامل بمعايير مختلفة مع مايكتبه العرب من ناحية وماينشره المواطن الغربي من ناحية أخرى، تلك العنصرية في التعامل التي كشفتها المعاملة المختلفة للاجئين الأوكرانيين الفارين من جحيم الحرب!!
***
أهالينا علمونا في الصغر اتباع المثل الشائع “اعمل الخير وألقه في البحر” ، بمعنى أن نقدم المعروف دون انتظار المقابل وأن أجر مانفعله لن يضيع سواء في الدنيا أو الآخرة.
الآن في زمن وسائل التواصل الإجتماعي تغيرت وتبدلت المفاهييم.. تابعت أكثر من “بوست” على الفيس بوك خلال هذا الأسبوع الحالي وكأن هناك اتفاقاً ضمنياً على الترويج لذات الفكرة والتي تتمثل في الدعوة الى المعاملة بالمثل.. يعني من تعدى عليك بأي طريقة رد له الصاع صاعين، ومن قاطعك، قاطعه حتى لو كان من ذوي الأرحام.
الموضوع قد يبدو بسيطاً أو بمثابة دعوات لتحقيق العدالة لكنه في واقع الأمرمحاولة لنشر ثقافة مختلفة وضرب مفهوم العائلة في مقتل، فالشعب المصري الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه في رباط الى يوم القيامة لاتتوقف الحملات المنظمة والمحاولات لاستهدافه وضرب منظومة القيم التي نشأنا عليها وكانت عامود الخيمة الذي يقوم عليه بنيان المجتمع.
وإذا كان الذين يروجون لمثل هذه الأفكار الدخيلة يبحثون عن الشهرة و”التريند” وزيادة عدد التعليقات واللايكات، فإنهم في ذات الوقت يشاركون في تنفيذ المخططات الرامية الى خلخلة وهدم قيم المجتمع ولو على المدى البعيد.
أيمن عبد الجواد