شعور يصعب وصفه، حين يصل المرء إلى موضع ما، ويشير: هذا وطني.
نحن نتعرف إلى روح الوطن في التفصيلات الصغيرة، والمنمنمات. قد نجد الوطن في أغنية تتحدث عن وطني وصباي وأحلامي.. ومصر التي في خاطرى وفي دمي.. ومسافر زاده الخيال.. وأنا إن قدر الله مماتي، لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي.. وأجل إن ذا يوم لمن يفتدي مصر.. كلمات تتغنى بالوطن، قيمه ومثله وطبيعته وآلامه وآماله، أستمع إلى أغنية ” عدى النهار” للأبنودى وبليغ حمدى وعبد الحليم حافظ. أستعيد الحالة المصرية في أعقاب نكسة 1967. طوف هنا، جنب المصانع والمزارع والزحام.. والغيطان اللي آخرها المدنة وابراج الحمام. هذا مشهد مصري تمامًا، لا تخالطه مشاهد أخرى، من موضع آخر، كنت أستعيد – بسماعها – زيارة أسبوعية إلى الزقازيق، على الجانبين غيطان تتخللها بيوت ومساجد ومقاهى، فى أفق الخضرة برج حمام ومئذنة وترامي تكتكة وابور طحين.
أنا أبتعد عن مصر، لكننى أحملها معى، تظل فى داخلى، أتابع الأخبار، أخوض المناقشات، أجرى المقارنات بين ما أراه فى هذا البلد أو ذاك، وبين ما يجب أن يكون شبيهًا له، أو مختلفًا عنه، في مصر.
تمثل فترة إقامتي فى مسقط [ ثمانى سنوات ] استثناء أرغمتني الظروف عليه لمجاوزة إيماني بالقرار. كانت الظروف الاقتصادية قد أجادت حصاري. وحين بدأت في إعداد أوراقى، كنت قد استدنت من البنك الأهلي مرتب شهرين.
لا أحب مغادرة مصر، أتعلل بسذاجات حتى لا أغادرها، بل أتمنى – بيني وبين نفسى – أن يحدث ما يؤجل الرحلة، أو يلغيها.
كان تصوري أن مشاعرى خاصة، لا أبوح بها حتى لأفراد أسرتى، ثم تبينت أنها مشاعر الكثير من المصريين. وأنى لست متفردًا في عزوفى عن السفر إلى الخارج، ذلك – على سبيل المثال – شعور المعلمين العقاد ونجيب محفوظ، وظنى أن الظروف المادية الصعبة هي الدافع لغالبية المصريين كي تتحول بلادهم إلى دولة هجرة.
لعلى أضيف خاصية أخرى، وجدتنى فيها أشبه بما رواه العقاد عن ضعفه أمام العادة، فلا يقدم على التبديل إلا بعد عناء طويل. القراري – فى رأى العقاد – هو الذى يرتبط بالقرار، أعطى المثل بالبطيخة التى لا تكبر إلا فى لبشتها.
القرار عندى يحتمل هذا المعنى. أميل إلى التنوع في القراءات، والتجريب في الفن، لكننى أصادق المكان، لا أتركه إلا لضرورة، إن ابتعدت عنه استعدته بالحنين والذكريات. وبرغم انقضاء سنوات كثيرة على مرحلة الصبا، فالشباب، فإن الذكريات صاحبتني بما عشته في بيوت السيالة، جلسات الصيادين على قهوة الزردوني، صحن جامع أبو العباس، الحديقة الدائرية قبالة سراي رأس التين، السور الحجري للميناء الشرقي، أهازيج السحر فى مئذنة أبو العباس، ترامى سوق العيد إلى الشوارع المتفرعة من ميدان الخمس فوانيس، أغنيات صيد الجرافة، الجلوات المتجهة من ميدان الأئمة – عبر شارع الأباصيرى – إلى جامع الشيخ إبراهيم، حلقات الذكر على رصيف البوصيرى، مخلاة العلف يدس فيها الحصان رأسه في وقفته وسط ميدان ” الخمسة فوانيس”، وعربة الترام الوحيدة في شارع السكة الجديدة، وعربات الدرجة الثالثة بقطار القاهرة، أول تعرفي إلى الزقاق الذي جعله نجيب محفوظ نبضًا لواحدة من رواياته، الإنصات – مساء كل اثنين – إلى تلاوة الشيخ محمد رفعت آيات القرآن، والجلوس – في هدأة الليل – إلى صوت أم كلثوم تغني: رق الحبيب وواعدني..
لما كنت في الرابعة عشرة، في الخامسة عشرة، في الثامنة عشرة، كنت أتطلع إلى سن الثلاثين. أجد فيها فرصة للانفلات من مرحلة الصبا، وما يرافقها – أحيانًا ـ من نظرات مستخفة، أو مكذبة. بلغت الثلاثين، وجاوزتها، دون أن ألحظ ما كنت أتصوره فى تلك السن. بلغت الأربعين والخمسين، وما بعدها. لم يستوقفنى توالى الأعوام، ولا شغلنى تأثيرها على حياتي الإبداعية وحياتي الشخصية. بعد تقدم السن، تغيرت نظرتي إلى الأمور تمامًا. تنبهت إلى وقوفى في طريق الشيخوخة. ألاحظ ما قد يطرأ على ملامحى من تغيرات، وأتأمل ما أنجزته، وما أتوق لإنجازه.
يتجلى الانتماء – والتعبير لأستاذنا نجيب محفوظ – في الحرص على سيادة القانون، وتقديسه، وتطبيقه بالعدل المطلق. لكي ينمو الانتماء، فلابد أن يتحقق في مناخ سليم، تتوافر فيه المبادئ والقيم والمثل العليا. وتتحدث بات باركر في روايتها” صمت الفتيات” عن الأغنيات التي تتحدث عن المجد الذي لا يفنى، والأبطال الذين يموتون في ساحات القتال، والعودة المكللة بالنصر إلى أرض الوطن.
لكن الوطن ليس مجرد الأغنيات والأناشيد الحافلة بشعارات التحدي والحرب والانتصار، ليس مجرد البنايات والشوارع والسواحل والنهر والبحيرات والترع والغيطان، ولا هو مجرد العلم، ولا السلام الوطني. إنه مجموعة من العلاقات الإنسانية التي تراكمت خلال حياة المرء، طالت أو قصرت. وهو المكان الذي نشعر – يقينًا – أننا ننتمي إليه، وأنه ينتمي إلينا، وأنه يجب أن يظل حرًا، مستقلًا، يرفض التمييز بين أبنائه.
نحن نرفع الشعارات بحب الوطن، نجاهر بالقول – كما فعل زكي مبارك – “لا أحب أن يسبقني أحد في حب الوطن”، نكتب المقالات والخواطر والدراسات التي توضح موقع الوطن في نفوسنا.
هل يكفى للإحساس بالمواطنة، لتأكيدها، أن نتغنى بالوطن؟
مفهوم الوطن يشمل اللغة والتاريخ والجغرافيا، إلى جانب البعد الأهم، وهو الانتماء، الشعور بالمواطنة. ومع أني أمضيت أعوامًا طويلة فى مدينة كوزموباليتينية، فإن الجنسيات التي التقيتها في شوارع مسقط تختلف تمامًا عن الجنسيات التي اعتدت رؤيتها في شوارع الإسكندرية. فى مسقط هنود وفلبينيون وبنغال وباكستانيون وغيرهم من الآسيويين، بالإضافة – طبعًا – إلى مواطني الأقطار العربية. أما الإسكندرية فقد ضمت جاليات أوروبية أساسًا، يونانيين وإيطاليين وفرنسيين وإنجليز وغيرهم، بالإضافة إلى أعداد من الجاليات العربية، من السودان والشام والمغرب العربي.
يتحدث شريف الشوباشى عن بواعث عودته إلى مصر، بعد أن أمضى فى فرنسا 21 عامًا. فعلى الرغم من أنه أتقن الفرنسية كأحد أبنائها، والتزم العادات والتقاليد الفرنسية بما لا يعزله عن سلوكيات الحياة اليومية، وحاول الاندماج في المجتمع الفرنسي ما وسعه، فإنه الشعور لم يفارقه بأنه غريب في المجتمع الفرنسي، وأن الفرنسيين يعتبرونه غريبًا، أو دخيلًا، ومن ثم فقد اتخذ قراره بالعودة إلى المجتمع الذي يعتبر نفسه جزءًا منه، والعكس صحيح.
ذلك ما واجهه هاشم السعدنى فى روايتي ” زمان الوصل ” أقام فى اليونان، وتزوج يونانية، وأتقن لغة البلاد، وقلد السلوكيات التي تفرضها العادات والتقاليد، واطمأن إلى أنه لم يعد غريبًا عن المجتمع الذي يعيش فيه، لكن اللحظة الوامضة، تفجأه بكذب مشاعره، وأنه وافد إلى اليونان، وليس من أبنائها.
الوطن – في تقدير بطل رواية جوجول ” تارس بولبا” – هو الذي تهفو إليه أرواحنا. ويعطي الشاعر الإيطالي ياكوبو أوريتس حبًا لوطنه أعمق من كل المشاعر الإنسانية. يقول في رسالة لصديق:” إذا كنت تظن أنه يمكن لأي مشاعر حب أخرى أن تحل محلها في القلب، فأنت لا تعرفني جيدًا، ولا تعلم الكثير عن قلوب البشر، حتى قلبك أنت. حب الوطن يثير كل المشاعر الأخرى، ويستثار بها. إنه الحقيقي”.
الوطن – فى رأي مختصر – هو الأرض التي نعيش عليها، وحين نموت فإننا ندفن فيها. يتساءل علي عزت بيجوفيتش: لماذا لا يستطيع المرء أن يهجر وطنه؟. ويجيب: ذلك لن يحدث، لأننا لا نستطيع أن نأخذ معنا المقابر، فمقابر آبائنا وأجدادنا هي جذورنا، والنبات الذي يجتث من جذوره لا يعيش، لذلك فإن علينا أن نبقى”.
ويروي زكي نجيب محمود أن صاحبة الشقة التي كان يستأجرها في سني الحرب العالمية الثانية، سألته عن وصيته إن حل الموت بغارات الألمان. قال زكي نجيب: وصيتي الوحيدة أن يدفن جثماني في أرض مصر. قالت السيدة في دهشة: أليست الأرض كلها سواء بالنسبة للموتى؟!. قال: أنت لا تدركين علاقة المصري بأرضه. إن الأرض تملكه بأكثر مما يملك الأرض!