لأني أفضل النظر إلى نصف الكوب الممتلئ، فقد وجدت في الفرحة العربية – عقب صعود فريق المغرب لدور الثمانية في مونديال قطر – ما يؤكد صحة البدن العربي، شملت الفرحة الجميع، لم تفرق بين مواطني دولة شاركت في المونديال، وأخرى لم تشارك في المراحل الأولى للبطولة، أو أن أوضاعها الداخلية تصعب اهتمامها بكرة القدم.
أول إحساسي بالانتماء العربي على نحو صحيح، حين ضربت محطة الإرسال الإذاعي في أبو زعبل. كنت أنقل مؤشر الراديو بين أكثر من عاصمة عربية، تقدم نفسها بالقول” هنا العاصمة الفلانية من القاهرة”. تحولت العاصمة الواحدة إلى العديد من العواصم، التأمت الأجزاء في جسم واحد، هو الجسم العربي. عمق إحساسي – بالطبع – تحركات الطبقة العاملة في امتداد الوطن العربي، والمتمثلة في قطع أنابيب البترول، ورفض تزويد بواخر دولتي فرنسا وبريطانيا، والتظاهر تنديدًا بالعدوان.
ذكرني بذلك الحدث البعيد وصل المواطنون العرب – وهم يدخلون، أو يغادرون استادات الدوحة – اسم المغرب بأسماء بلادهم: أنا مصري مغربي، أنا سوداني مغربي، أنا تونسي مغربي، أنا جزائري مغربي. ذابت المسميات القطرية، حل الإحساس بالوحدة والانتماء والتعاطف والتكافل والمناصرة، وغيرها من المشاعر التي تعبر عن الهوية الواحدة.
المثقف العربى يستحق الصفة عندما يقيم فى القاهرة ومشاعره تتجه إلى حيث تجرى الأحداث فى دمشق أو بيروت، والذى يمتد فيشمل خارطة الوطن العربى. هو مهموم بالموطن، القطر الذي يعيش فيه، وهو مهموم كذلك بالوطن العربي الكبير، الذي يشمل كل الأقطار، تختلط التوقعات، تتراوح المشاعر بين الأمل والقلق والخوف والتمني والإحباط.
أذكر – أثنء زيارة إلى نواكشوط في أعقاب انتصار 1973 – قول سياسى موريتانى، عربى: احرصوا على النصر، الهزيمة تضرنا!.
وعرفت أن النزاع العرقي بين العرب والقادمين من إفريقيا السوداء، يلقى ظلاله النفسية على العرب من أبناء موريتانيا، إذا واجه قطر ما يستدعي شماتة الموريتانيين ذوي الأصل الإفريقى.
العروبة بالنسبة لي، وللكثيرين، ليست مجرد كلمة، ولا شعار، ولا نظرية، ولا فكرة. إنها حياة كاملة، تبدأ منذ إرهاصات المعنى، وظهوره، ومحاولات تعميقه، وتحويله إلى منهاج حياة. ثمة إحساس بالماضي المشترك، والمصير المشترك، والوحدة.
كان ذلك كله هو الخيوط التى نسجت منها كلمة العروبة.
المفردات التى تصل بين الأقطار العربية، وتؤهلها لدولة العرب الواحدة، أكثر – وأعمق – من المفردات التى تصل بين دول الاتحاد الأوروبى. ولعل المثل الأوضح أن دول الاتحاد الأوروبى تتحدث العديد من اللغات، بينما العربية هي اللغة الرئيسة للشعب العربي بتعدد أقطاره.
يأخذنا الإعجاب – وربما الحسرة – لسهولة الانتقال بين بلدان أوروبا، ونجد في العملة الموحدة – رغم ما تواجهه من عثرات – ما يحزننا على تشرذمنا الاقتصادي، ننسى – أو نتناسى – أن مواطني المنطقة العربية كانوا يتنقلون – قبل 1948 – بلا جوازات سفر، ولا تأشيرات دخول، يضع المرء متاعه على كتفه، ويمضي، مقصده الأهم أرض الحجاز، سعيًا لأداء فريضة الحج، وزيارة الروضة الشريفة. قد يعدل عن استكمال رحلته في رحلة الذهاب أو العودة، ينزل في مدينة أو قرية ربما تتغير فيها ظروف حياته.
لا أدرى – على وجه التحديد – متى، ولا أين، قدم جدى قاضى البهار، لكنه تخلف – أثناء رحلة الحج – فى القاهرة، فأقام فيها، ذلك ما فعله ابن خلدون والشاذلى والمرسى أبو العباس وعشرات من علماء ومثقفى المغرب العربى الذين تحولوا إلى أوردة فى جسد الثقافة المصرية ” كلنا ولاد إسلام”، لم يهمل التعبير مواطنة المسيحى، أو اليهودى، لكنه كان يقصد الدولة الواحدة التى ترعى كل مواطنيها، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، نقرأ لطه حسين، ليس باعتباره كاتبًا مصريًا، وإنما لأنه كاتب عربى، يقبل على قراءة أعماله أبناء الوطن العربى، نسير فى أسواق تونس أو بيروت أو الخرطوم، يتناهى من البنايات على الجانبين أغنيات أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز وفايزة ووردة وعبد الحليم حافظ.
ثمة الانتماءات اللغوية والتاريخ المشترك والمشاعر المتقاربة والموروث الذي ينهل من نبع واحد، ثمة لقب المصري على عائلة أردنية، والمغربي على عائلة مصرية، ورئيس وزراء العراق الحالي لقب عائلته السوداني، وثمة ألقاب تنتسب إلى مدن صغيرة فى بلد عربى، تطلق على عائلات فى أقطار عربية، تتعدد مدنها وقراها.
الشعب العربى الواحد هو المشروع الذى جمع هذه الأمة، شحبت فيه الطائفية والقبلية والعرقية، وكل ما يفتت البيئة الواحدة. ثم سقط مفهوم الأمة، واستعلت قيمة الأنا.
العالم يتجه إلينا كعرب، يخاطبنا، ويستمع إلينا بهذه الصفة، يتعرف إلى إبداعاتنا بالعربية، يشاهدها، يقرأها، يستمع إليها، لا تعزله إقليمية الموطن عن الوطن الفسيح، ما يتعرف إليه ينتسب إلى الإبداع العربي مطلقاً. وعلى حد تعبير المصرى الجميل جمال حمدان فإن مصر محكوم عليها بالعروبة، هي واسطة كتاب الجغرافيا، تحولت إلى فاتحة كتاب التاريخ.
الحدث السياسى، أو الاجتماعى، أو الثقافي، أو الرياضي، في قطر عربى، لابد أن تكون له أصداء فى الأقطار الأخرى، تمتد تأثيراته من القطر الذى شهد الحدث إلى بقية الأقطار، تفرض التوقع نفسه، مختلطًا بالفرحة، أو التطلع إلى المغايرة.
شكرًا لمونديال العالم في الدوحة!