في الحادي عشر من ديسمبر 1911 ولد في بيت القاضى بالجمالية، سيد الرواية العربية نجيب محفوظ.
أذكر قول محفوظ إنه كان شوارعيًا بكل معنى الكلمة، آفاقه: الشوارع والحوارى والعطوف والدروب والأزقة والمقاهى والجوامع والأسبلة والأقبية والمشربيات والمدارس والجامعة والخلاء والعوامات ودور السينما والنيل والمظاهرات والأصدقاء.. ذلك كله – وغيره – يشكل بانوراما القاهرة المحفوظية. تعبير ” شوارعي ” يعنى التعرف المباشر إلى أبعاد الحياة القاهرية، الكليات والتفصيلات الجزئية والمنمنمات، الفسيفساء التى تصنع اكتمال المشهد، فهو يحاول أن يحتفظ فى ذاكرته بما يلتقطه، أو يسجل ما يراه، أو يسمعه، فى نوتة صغيرة يحتفظ بها داخل جيب الجاكتة، يضمنها موقفًا، أو لمحة فى شخصية.
كان يفضل أن ينتقل بين بيت الأب فى شارع رضوان شكرى – انتقلت إليه الأسرة وهو في السابعة من العمر – وإدارة القرض الحسن بوزارة الأوقاف، وبين البيت ومصلحة الفنون، ثم بينه ومؤسسات وزارة الثقافة، وبين شقة الأسرة فى شارع النيل – عقب إحالته إلى المعاش – ومبنى جريدة الأهرام. السير على القدمين دومًا إلى كل الأمكنة، حيث يلتقى الأصدقاء فى كازينو أوبرا، وفي المقاهى، وعوامة الحرافيش.. تلك الجولات المنتظمة، والعشوائية، أتاحت لمحفوظ أن يواصل التحديق في ملامح القاهرة، حياة الناس اليومية والزحام والنداءات والخناقات والطقس المتقلب والأركان المظلمة والهامسة.
أحب التردد على حي الحسين. السير في ميادينه وشوارعه وأزقته، الجلوس على مقاهيه، التردد على الصاغة وخان الخليلي والحمزاوي والصنادقية وغيرها من معالم الحى العتيق، زيارة الأزهر وجامع سيد الشهداء وغيرهما من المساجد والزوايا والتكايا والخانات والوكالات والأسبلة، عبق الروحية والتاريخ والتراث والموروث والحياة المتفردة. كل بناية وشارع ودرب وقبو وسبيل وانحناءة طريق، تعيدني إلى فترة ما، إلى ملمح بذاته من حياة المصريين عبر أكثر من ألف وخمسمائة سنة، منذ أنشأ جوهر الصقلى بدايات مدينة القاهرة، التي امتدت، واتسعت، في توالي القرون، ليصبح موضع القاهرة المعزية جانبًا من أحيائها العديدة المترامية.
هذه القاهرة، هي العالم الذى يضم العديد من إبداعات نجيب محفوظ، وإن لاحظ أندريه مايكل أن المكان غائب عن ثلاثية محفوظ. ثمة بين القصرين وقصر الشوق والسكرية، وثمة بائع العصير والحلاق وبائع الدوم، لكن الملامح التى تهب التمايز غير موجودة، فالشارع مجرد شارع، والدكان مجرد دكان، لا ملمح يميزه عن سواه من الدكاكين.
الصنادقية هو الشارع الذي يتفرع منه زقاق المدق، والزقاق – كما تعلم – هو البطل في رواية نجيب محفوظ التي أطلق عليها الاسم نفسه، والرواية معلم مهم في الإبداع الروائي العربي.
فتشت عن زقاق المدق. سرت في شارع الصنادقية إلى نهايته، وعدت. ألفت التردد عليه من قبل كثيرًا. جلست على المقهى مع الصديق الكاتب الراحل صلاح طنطاوى. تعرفت إلى المواضع الذي وظفها نجيب محفوظ فى رائعته الروائية.
لاحظ بائع في مواجهة ما كان زقاق المدق حيرتي. أشار إلى أرفف وصناديق وأجولة وباعة ملأوا المكان، فأنت تراه متجرًا إلى جانب دكاكين الشارع. أين ذهب الزقاق الذي استوحى منه الفنان شخصيات عم كامل وعباس الحلو وحميدة والشيخ رضوان والست سنية وجعدة الفران وفرج القواد والدكتور بوشي ورضوان الجسيني وزيطة صانع العاهات؟ أين المقهى والفرن، والبيت الذى جعل الفنان حميدة تقطن طابقه العلوي ؟
اختفى ذلك كله. حتى اللافتة أول الزقاق نزعت واختفت. غابت رائحة المكان. أثق أن نجيب محفوظ كان سيخفق لو أنه حاول استعادة ما كان.
نحن نلحظ أن الدول – بصرف النظر عن حظها من التقدم والتخلف – تحرص أن تحيل الأماكن التى أقام فيها المبدعون، أو تناولتها أعمالهم، إلى مزارات سياحية. ذلك ما فعلته روسيا لتشيخوف وبوشكين وديستويفسكى، وفرنسا لزولا وفلوبير وبلزاك، وإنجلترا لشكسبير وبايرون. بل إن كفافيس الشاعر اليونانى السكندرى، حرصت أسرته – أو حكومة اليونان – أن تضع لافتة بهذا المعنى على باب البيت الذي سكن فيه.
إذا كان الحفاظ على المعالم الأثرية والسياحية من صميم أنشطة وزارة الثقافة، فلعل ذلك يمتد إلى الأماكن التي تجسدت في الوجدان، من خلال أعمال مبدعين في قامة نجيب محفوظ.
” زقاق المدق ” هو البطل في رواية نجيب محفوظ، وللأسف فإن زيارة الصنادقية، ومحاولة التعرف إلى الزقاق ستصيبك بخيبة أمل قاسية. اختفى الزقاق تمامًا، المقهى والفرن والبيت وغيرها. حلت بدلًا منها رصات بضائع. حتى اللافتة التي كتب عليها اسم الزقاق رفعت من موضعها، فمن الصعب أن نعرف موضع الزقاق إلا بإلحاح السؤال!
أما الإسكندرية، فإن كورنيش البحر هو البطل – غالبًا- فى روايات نجيب محفوظ التي تناولت المكان السكندري: البنسيون يطل على البحر، الكازينو/ المقهى في مواجهة البحر، الشخصيات تتحرك على رصيف البحر، ذلك كله، وغيره، تبين عنه السمان والخريف، وميرامار، وسمارة الأمير، وغيرها. وإذا كان أندريه مايكل قد لاحظ غياب الملامح، المغايرة، المميزة، للقاهرة المعزية فى أعمال محفوظ، فإنه يمكن القول إن الإسكندرية فى روايات محفوظ ليست سوى ومضات سياحية، عابرة، لا تهب خصوصية المدينة، بقدر ما تجد فيها خلفية شاحبة للأحداث.
***
نجيب محفوظ قاهري في معظم إبداعاته. إذا استثنينا توظيفه للتاريخ الفرعوني، فإن القاهرة هي حدود هذه الإبداعات بدءًا بأولى قصصه القصيرة إلى أحدث قصصه القصيرة، مرورًا بما يبلغ 45 رواية، وحوالي ثلاثمائة قصة قصيرة.
والحق أي لا أستطيع أن أنسى الكثير من شخصيات محفوظ. كم التقيت فى الطريق بأحمد عبد الجواد وياسين وفهمى وكمال وكامل رؤبة لاظ ونفيسة وحسن أبو الروس وحسنين كامل علي ومحجوب عبد الدايم وإحسان شحاتة وسعيد مهران وصابر الرحيمي وعمر الحمزاوي وعيسى الدباغ وأحمد عاكف وعباس الحلو وحميدة وفرج إبراهيم، وعشرات غيرهم أجاد الفنان رسم ملامحهم الظاهرة وتحليل نفسياتهم، في أعماله.
مع ذلك، فأنت تستطيع التعرف إلى أبعاد الحياة المصرية في قراءتك لأعمال نجيب محفوظ. التاريخ والجغرافيا والمعتقدات والعادات والتقاليد والتطورات السياسية. لا تقتصر مكوّنات الصورة البانورامية على روايات مرحلة الواقعية الطبيعية، منذ ” خان الخليلي ” إلى الثلاثية، لكنك تجد تفصيلات مهمة من الصورة في ” اللص والكلاب ” و” السمان والخريف ” و” الطريق” و”الشحاذ “، إلى ” قشتمر ” آخر أعمال محفوظ الروائية. إنه ليس زولا مصر، ولا جبرتى مصر الحديثة. إنه نجيب محفوظ الذي لا يكتفي بالتصوير – شأن المدرسة الواقعية الطبيعية – ولا بمجرد التسجيل التاريخي أو الاجتماعي، شأن المؤرخين، لكننا نجد – في مجموع أعماله – نظرة كلية، نظرة شاملة، فلسفة حياة، أشرت إليها – قبلًا – في كتابي ” نجيب محفوظ – صداقة جيلين“.