ألفنا – في العقود الأخيرة – تحول الشعراء وكتاب المسرح والموسيقيين والفنانين التشكيلين إلى كتابة الرواية، كأنها الملتقى الذي يجدر بكل المبدعين أن يتجهوا إليه، حتى المؤرخين وكتاب السياسة وجدوا في الرواية بديلًا موازيًا لكتاباتهم في السير الذاتية والتراجم.
العرض المسرحي الجديد ليسري حسان” يا شيخ سلامة“، ومن قبله عرض ” خلطة شبرا” للكاتب نفسه، مغايرة لظاهرة الكتابة الروائية التي أضافها الكثيرون إلى إسهاماتهم في المجالات المختلفة.
يذكرني تغريد يسري حسان في تحليقه خارج سرب مبدعي الرواية بالناقد الفني الراحل محمد دوارة من حيث اتجاهه إلى الكتابة المسرحية، كما تذكرني مسرحيته الجديدة بمساجلة حول شخصية سلامة حجازي، شاركت فيها بالمتابعة الصحفية. ولذلك قصة يجدر بي روايتها:
أمضيت فى” الجمهورية” بضعة أشهر، عملت فيها مع سعد الدين وهبة فى صفحته الاجتماعية” صباح الخير”، ورشدى صالح فى زاويته الأدبية. ترك سعد وهبة الجمهورية إلى وزارة الثقافة. حل – بدلاً منه فى الإشراف على ” صباح الخير ” شخص عدوانى الطبع، يكتفى بالنظر إلى المادة التى نقدمها له، يدفع بها إلى أحمد عباس صالح ونعمان عاشور، وأحيانًا سعد مكاوى وسامى داود، يراجعونها إلى حد إعادة الصياغة. كان دور الرجل أشبه بالوسيط بين محررى القطعة مثلي، وبين سكرتارية التحرير، عبر مراجعة مجموعة الأدباء الذين يشاركونه حجرته.
تلبد الأفق بغيوم داكنة. أزمعت أن أبحث عن الشمس فى موضع آخر، وعملت فى ” المساء” عندما كانت في مبناها القديم ذي المصعد الذي يخاطب ركابه بلافتة: اثنان فقط، وإلا سقط. أسهمت في أكثر من مجال، منها صفحة ” كل الناس ” التي عهد بها إلى كمال الجويلي فيما بعد، ومنها باب عنوانه”خمس دقائق ” بالتناوب مع باب عنوانه ” يوميات الشعب “، وكان عبد الفتاح الجمل يشرف على البابين.
اتصلت بالشاعر صالح جودت. لم أكن أعرف أن حوار الدقائق الخمس سيثير واحدة من أهم قضايا أوائل الستينيات. كان الواقع الثقافى آنذاك مجال الحوار. آخر أسئلتى عن الضجة التى أثيرت وقتها حول موسيقا سيد درويش.
قال صالح جودت: لا نزاع فى أن عبد الوهاب أعظم من سيد درويش ألف مرة. عبد الوهاب عنده إحساس بالكلمة، أما سيد درويش، فقد ارتضى لنفسه أن يلحن كلمات مثل” اتفوه “، و” إخيه ” إلخ.. ولا عذر عنده، فبديع خيرى وبيرم التونسى كانا يؤلفان الأغانى ذات المعانى الجيدة، وفى نفس عصر سيد درويش” ( المساء12\8\1960 )
أحدثت هذه الكلمات القليلة ردود أفعال لم أكن أتوقعها، وتلقيت مقالة مطولة من الناقد الفني بالزميلة” الجمهورية” محمد دوارة، أعاد فيها تقديم فنان الشعب الراحل، وفند رأى صالح جودت بكلمات قاسية،
قدمت المقالة إلى عبد الفتاح الجمل، وفي داخلي توقع أنه سيعتذر عن عدم نشرها، لكنه هتف بفرحة طفل: هايل.. قضية تستحق النشر.
أتصور أن باعث كلمات الجمل لأن مقالة دوارة عرضت للفترة التي كان عبد الوهاب قد حقق فيها مكانة متفوقة، إلى جانب جماعات من الموسيقيين: السنباطى والشريف وأحمد صدقى وزكريا وعلي فراج والأطرش ومحمد فوزي وغيرهم، وإن ظلت لسيد درويش مكانته المتفردة التى لم تتبدل، أو تشحب، رغم انقضاء عشرات السنين.
كانت تلك المقالة بداية اقترابي من شخصية محمد دوارة. إذا كانت مؤلفات الراحل فؤاد دوارة قد خلفت تأثيرًا مهمًا في المجال الثقافي، سواء دراسته فى مسرح توفيق الحكيم، أو ملاحظاته النقدية على إصدارات المطابع فى القصة والرواية، وحواراته مع رموز العصر التي تضمنها كتابه ” عشرة أدباء يتحدثون” فإن لشقيقه الأكبر محمد دوارة تأثيرًا – في المجال الفني تحديدًا – يصعب إغفاله، قصر جهده على دراسة الأعمال الموسيقية والمسرحية والسينمائية، وله كتاب عن فنان الشعب سيد درويش، أتاح تفرده اقترابه من عالم الفنان العظيم في مسقط رأسه بكوم الدكة، وإصغائه إلى حكايات المعاصرين لسيد درويش في مرحلة صباه وشبابه الباكر، قبل أن يرحل – بحثًا عن المساحة الأوسع – إلى القاهرة، وشارك مع عبد المنعم مدبولي وسمير خفاجي في تكوين فرقة الفنانين المتحدين، وقدم – من خلالها – مسرحيات: البيجاما الحمراء، الزوج العاشر، العيال الطيبين.
لم تكن مقالة محمد دوارة أولى المساجلات التي شاركت فيها بالمتابعة الصحفية، صدر للدكتور محمود الحفني في سلسلة ” أعلام العرب” – كم نفتقد تلك الحصيلة المعرفية في أعلام العرب والمكتبة الثقافية وتراث الإنسانية والمسرح العالمي والفكر السياسي والمجلات الثقافية التي أتيح لنا الحصول عليها من باعة الصحف – صدر للحفني كتاب عن الفنان سلامة حجازي، تضمن معلومات ثرية عن شخصية الفنان الراحل وفنه. جاءني صوت محمد دوارة – عبر الهاتف – غاضبًا: كتاب الحفنى أغفل المصدر الوحيد الذي استمد منه مادته، وحدثني عن الصيدلي محمد فاضل، صدر له كتاب عكست مادته علاقة صداقة بينه وبين سلامة حجازي، ونشرت مقالًا لدوارة يطالب فيها الحفني بالإشارة إلى كتاب محمد فاضل.
أدركت أن اللهجة المرحبة في صوت محمد فاضل – عبر التليفون – لأنه عرف أبي، وأنه – مثله – من أبناء البحيرة.
أحب محمد فاضل الشيخ سلامة حجازي بالسماع. اجتذبه غناؤه بما دفعه إلى الحرص على دراسة فنه وحياته، حدثني عن رحلاته المتكررة من دمنهور إلى الإسكندرية، وزياراته للبيت الذي ولد فيه سلامة حجازي، والحارة التي أمضي فيها سنوات، قبل أن يرحل إلى القاهرة، عرف من الأسرار ما لم يتوصل إليه نقاد الفن ومؤرخوه، بل إنه حرص أن يقف بجوار شاهد قبر سلامة حجازي، تأكيدً لإعجابه بالفنان الراحل.
لا أعرف إن كان يسري حسان قد رجع إلى كتاب محمد فاضل. لكن الملامح الإنسانية، الفسيفساء المتناثرة في صفحات الكتاب، أبانت عن جوانب مهمة في علاقة الشيخ سلامة بفن الغناء.
مسرحية” يا شيخ سلامة” حلقة جديدة في سلسلة الأعمال الدرامية التي أرخت لرموز حياتنا الفنية: عبده الحامولي، ألمظ، سيد درويش، أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، نجيب الريحاني، عبد الحليم حافظ، إلخ..
أرجو أن يواصل يسري حسان – بشاعريته وحسه الشعبي الغلاب – وصل السلسلة بحلقات تالية، تضيف إلى بانورامية المشهد الفني منذ مسرحيات المحبظين في زمن محمد علي، ثم محاولات الشوام في نهايات القرن التاسع عشر، فالكتابات المسرحية لمبدعي الاستنارة: محمد عثمان جلال ومحمد تيمور وأمين صدقي وأحمد شوقي وبديع خيري وأحمد زكي أبو شادي وتوفيق الحكيم، ثم كتاب مسرح الستينيات الذي اعتبره التعبير الأجمل عن نهضة المسرح المصري من خلال أعمال باكثير والشرقاوي ونجيب سرور ونعمان عاشور ودياب وألفريد فرج والخولي ومكاوي ورومان وسعد وهبة وعلى سالم وخورشيد وأنور عبد الله،فالأعمال التالية لفيصل ندا ووحيد حامد ولينين الرملي ويسري الجندي وغيرهم.
أهلًا بالشيخ سلامة!