قبل عدة سنوات أرسل أحد المشاهدين سؤالاً غريباً للعالم الجليل الراحل د. عبد الصبور شاهين قائلاً: أعمل مكوجياً وأضطر أحياناً الى كي ملابس السهرة النسائية، فهل هذا الأمر حلال أم حرام؟!.. وبخفة ظل أجاب “رحمه الله”: حرام اذا لم تحسن كيها، في دلالة واضحة على سماحة ورحابة الدين الذي لم يأت لتعقيد حياة الناس وانما جاء رحمة للعالمين.
الأديان ــ كل الأديان ــ تعمل على تنظم حياتنا وليس تعقيدها ووضع العقبات أمام الناس في أمور الدنيا والدين، وهناك قاعدة فقهية مهمة تؤكد أن الأصل في الأشياء الإباحة ولاتحريم إلا بنص وماخير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه.
من هنا فإن الدين الحنيف يحثنا على التخفيف والتيسير ولاعلاقة له بالتشدد والتطرف والمبالغة في فهم النصوص بل أن القرآن الكريم حذر من الوصاية على الدين في قوله تعالى “ولاتقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لايفلحون (النحل 116).
الإسلام وضع قواعد واضحة للارتقاء بالسلوك والأخلاق والحث على اتقان العمل دون عقبات أو عراقيل فكل شيء متاح ــ ومباح ــ وعندما تعامل المسلمون الأوائل بهذا الفهم وتلك الروح السمحة للدين الحنيف واستيعابه لمختلف العقول والثقافات حققوا السيادة على الأرض وأقاموا دولة العدل والرحمة ووضعوا قدماً في الأندلس وقدماً بالصين، ولم نتفرق ويصيبنا الضعف والهوان ونتحول الى شيع وأحزاب إلا بظهور التطرف والغلو في فهم النصوص بعيداً عن المقاصد الأساسية للرسالة المحمدية.
***
منذ عدة أيام فوجئت بإبنتي الصغرى “ريم” بالصف الثاني الإعدادي تسألني بإهتمام عن نوع معين من البسكويت ان كان حلالاً أم حراماً، قبل أن تسترسل قائلة إن احدى زميلاتها طالبتها بإلامتناع عن شرائه بحجة أن بعض مكوناته لايجوز تناولها، وبقدر سهولة الرد بقدر ما أصابني من إرتباك وحيرة وقلق بسبب هذا التصرف الغريب.
القصة ليست في نوع البسكويت الموجود بكل محلات السوبر ماركت ويتناوله معظم الأطفال في سنها ولكن في طريقة تفكير فتاة صغيرة خرجت للتو من مرحلة الطفولة، ومن له مصلحة في إستهداف عقلها في هذه السن الصغيرة ؟!، وكيف سيكون تفكيرها في المستقبل اذا كانت محملة بتلك الأفكار المغلوطة من الآن؟!
زميلة ابنتي الصغيرة بالتأكيد ليست باحثة متخصصة في أنواع البسكويت ولم تبحث بحكم سنها الصغيرة في مراجع دينية أو تذهب الى حلقات علم، ومن ثم فهي بكل تأكيد تستقي معلوماتها المغلوطة من الأسرة، وهنا مكمن الخطورة فهذا المناخ لن يتيح لها الحكم على الأشياء بالمنطق أو بالمنهجية العلمية المطلوبة لإضاءة المناطق المظلمة في عقلها وتصحيح طريقة تفكيرها، فالمناخ لن يتغير وسيقودها الى الأسوأ.
الدين منهج حياة جاء ليساعد الناس على العيش بكرامة وسلام وأمان وأباح لنا التمتع بالطيبات.. أما حكاية البسكويت الحرام فهي مجرد مؤشر لمنهج مختل في التفكير وماخفي كان أعظم.
***
إذا كان الإرهاب أخطر من الحروب النظامية بإعتبار أنك تحارب عدواً لا تعرفه أو تتوقع الطريقة التي التي يفاجئك بها، فإن التطرف أخطر من الإرهاب نفسه لأن الأول عبارة عن مجموعة من المرتزقة يرتكبون الجرائم مقابل المال واذا توقف التمويل سيتوقف كل شيء تلقائياً.. أما التشدد فهو منهج تفكير وفهم خاطيء للدين لايمكنك أبداً أن تفهم تصرفاته أو كيفية التعامل معه.
كما أن الغلو والتطرف يدفع الناس الى الإبتعاد عن التدين والدين نفسه بإعتباره عقبة أمام الحياة بالجودة المطلوبة وأن نعيش بالطريقة التي نريدها وهو أمر لم يرد في كتاب أو سنة ولكن في وصايا أشخاص لم يفهموا مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء التي جاءت لاصلاح حياة الناس وليس تعقيدها.
المسألة أكبر من الجدل والخلاف على القشور وترك القضايا الأساسية التي ترتقي بالمجتمعات الاسلامية وتحقق الرفاهية للناس، فليس من المعقول ــ ولا المقبول ــ أن نترك الفجوة تتزايد بيننا وبين العالم المتقدم في كل المجالات بينما مازلنا نحن مشغولين بأمور هامشية لاتسمن ولاتغني من جوع.
أيمن عبد الجواد