صناعة القدوة أهم شيء نقدمه لأبنائنا ..صناعة القدوة مقدمة لازمة ومطلوبة لصناعة المواطن الصالح المحب لوطنه والمتصالح مع نفسه ومجتمعه، المواطن غير القابل للتذوبب والتغريب والاستهداف..وهي صناعة ثقيلة وضرورية لخلق البطل الذي يستوعب دروس التاريخ ويستلهم سير العظماء والقدرة على كتابة تاريخ جديد يضيف للأمة ويبني مستقبلها الراشد.
الدراما مع التعليم والإعلام مثلث صناعة العقل والوعي والرؤية و سيلة لبناء جيل يملك هدفا ويحمل هموم وطنه وأمته وينسجم مع تعاليم دينه وقيم مجتمعه وروح عصر ..وهذا الثالوث أخطر ما يكون تأثيرا وتدميرا.
انظروا مثلا لحال شبابنا وأجيالنا الجديدة ماذا يفضلون ..وماذا يعرفون ..وبالأحرى ..بمن يقتدون ..ستجد أغلبهم يهيمون إعجاباً بلاعبي الكرة وأهل الفن وربما مطربي المهرجانات الذين صاروا ظاهرة تطفح بالإسفاف والسقوط وانحدار الذوق…وشتان بين غناء هادف يبني الروح ويرقى بالذوق العام وبين انحطاط ينضح بساقط اللفظ ويشوه الذائقة ويهدم الوجدان
وحين تطالع قائمة المسلسلات المزمع عرضها في رمضان هذا العام ستجد مسلسلين تاريخيين فقط في قائمتها العريضة التي تضم 16 عملاً درامياً. المسلسلان هما “الإمام الشافعي” الذي يتناول سيرة واحد من الأئمة الأربعة ومؤسس علم الفقه ومقر عرضه في 15 حلقة فقط..وقد سبق قبل سنوات إنتاج مسلسل مصري آخر بنفس الاسم.
أما المسلسل التاريخي الثاني المقرر عرضه هذا العام فهو “معاوية” وهو عمل يراه البعض مثيرا للجدل، لتناوله خلافات الخلافة واستشهاد الإمام علي في فترة شائكة من تاريخنا لها ما لها وعليها ما عليها؛ وأحسب أن العلم بتفاصيلها قد يكون علمًا لا ينفع وجهلًا لا يضر ..أليس إغلاق باب الفتنة مقدمًا على جلب المصلحة إن كان ثمة مصلحة في اقتحام هذه الفترة وعرضها في مسلسل تاريخي..وهل ضاق التاريخ الإسلامي على اتساعه أمام مؤلف المسلسل ومنتجه حتى استقر اختيارهما على هذا العمل الذي يقول عنوانه إنه سيجتر أحزانًا وينكأ جراحًا نحن في غنى عنها .
المسلسلات التاريخية تمتاز بضخامة الإنتاج وتحتاج لميزانيات وكتاب ومراجعات من نوع خاص؛ وهو ما قد يفسر لنا تراجع الإنتاج في هذا الصنف من الدراما.
سوق الدراما وخصوصا في رمضان وباستثناءات نادرة، كما تعودنا، هو سوق غث يخاطب الغرائز وينمي الاستهلاك النهم والعنف وقلما يحتفي بأبطال حقيقيين في تاريخنا أو يقدم قدوة أو يبني عقلاً أو يربط أجيالنا الجديدة بجذورها وتاريخها الحقيقي أو يبث حماسة في أوصالهم وعقيدة في روحهم تأخذهم لبرالأمان ..وتستنقذهم من براثن التطرف ومن أنياب التشويه والتشويش ورياح الغزو الفكري والثقافي والشائعات التي تعمل بكفاءة دون انقطاع.
تراجعت الدراما المصرية ولم تعد لها الصدارة عربيا ..بل لعلك تجد مسلسلات تاريخية عربية تزاحم ما قدمته مصر عبر عقود حتى وصلنا لزمان المنصات التي تجذب قوانا الناعمة وتستأثر بعرض أعمالنا في الفن والدراما.
ولماذا تراجعت المسلسلات التاريخية التي تحيي التاريخ فينا وتستحث الهمم وتربط الحاضر والمستقبل بالماضي المشرق ..حتى تركت لمسلسلات فارغة تجد حرجا في متابعتها مع أسرتك لما تحتويه من مشاهد عنف وتدخين وعري وإسفاف لفظي وهو ما يخدش الفضيلة والقيم ويحرض على فساد الضمائر والذمم..هل تراجعت لأن المشاهد “عاوز كده” وهذا ذوقه الذي تجرد من الجمال وسكنه القبح ..أم لأن صناع الدراما يريدون لنا هذا المصير..وأين الدولة وأجهزتها المعنية بصناعة العقل والوجدان والضمير الحارسة لقيم المجتمع ..لماذا لا نجد عملا دراميا ضخما وهادفا في كل عام تجتمع له همة المبدعين وتشارك في تمويله وزارات الشباب والثقافة والتخطيط مثلا لترقية الذوق العام وتربية النشء الجديد على شيء ذي قيمة يفيد في معركة الوعي وينتصر للمستقبل وللوطن والأمة ويشيع الأمل ويصل الحاضر بالماضي ويثبت الهوية ويحيي مكارم الأخلاق في ضمائر الأجيال الجديدة .