لست أذكر متى بدأ اهتمام الدارسين بمسودات الكتابة الإبداعية. ربما بعد الاجتهادات الرائدة لمصطفى سويف ومصري حنورة وشاكر عبد الحميد، في تناول العملية الإبداعية من منظور التحليل النفسي.
اعتاد الكتاب أن يسودوا بخطوطهم بياض الصفحات، تنتهي صلتهم بها بعد أن يراجعوا، ويصوبوا، ويوقعوا على الموافقة بالنشر.
كتب يحيى حقي لـ” المساء” عشرات المقالات، تسلمت غالبيتها منه في صباح الأحد كل أسبوع، لتنشر في عدد اليوم التالي. أميل – في طريقي للجريدة – إلى بيته آخر شارع الخليفة المأمون. الشقة تحت السطح، فهو يطالعني عند فتح الباب – أوقات الصيف – بقربة ماء بارد فوق رأسه، وبكلمات معاناة من تأثيرات الحر، ومن الجهد الذي بذله في كتابة ما لا يزيد عن1500 كلمة، يحذف ويضيف ويبدّل، ويكثف، فلا يرفع قلمه إلًا بعد أن يطمئن إلى خلو المقال من الإطناب غير المبرر والثرثرة.
وفي حوزتي أجوبة – بخط نجيب محفوظ – ردًا على أسئلة لي، احتفظت بها بدافع طبيعتي الأرشيفية، ولأن الأوراق للكاتب الذي أحببته. أصل أسئلة الحوار بردوده في مادة صحفية لها رأس وجسد وذيل، وأقدمها إلى سكرتارية التحرير، فتسلمها إلى عم ربيع رئيس صالة التوضيب. يدفع بها إلى آلات جمع الإنترتيب، ثم يعهد بالبروفات إلى قسم التصحيح، فيحتفظ بها – بعد إنجاز مهمته – لمدة ما، قبل أن تودع سلال المهملات!
عملية ما بعد الكتابة بعد مهم في الإبداع الغربي. ثمة عشرات الكتب والرسائل الأكاديمية التي جعلت من مسودات الكتابة محورًا لها.
في هذا السياق، تفهمت سؤال الكاتب الصحفي محمد شعير- وله اجتهادات مهمة في السيرة الحياتية والفنية لنجيب محفوظ – عن حقيقة مراجعتي رواية محفوظ” أصداء السيرة الذاتية، وإن كنت قد احتفظت بالمسودات، عقب المراجعة.
حدثني نجيب محفوظ عن عادته في الكتابة، في فترة العمل الوظيفي تحديدًا، حيث مواعيد العمل تأخذه من الصباح إلى الثالثة بعد الظهر. يقتطع من وقت المساء ساعتين للكتابة. يكتب بالقلم الرصاص على ورق أبيض. يشطب الكلمات الزائدة، أو التي يستبدلها، أو يضيف كلمات يحتاجها السياق. إذا اطمأن إلى ما كتب، نقله بقلم الحبر، ودفع به إلى ناشره سعيد السحار.
عاب البعض على محفوظ أنه كان يستدعي الإلهام في جلسته اليومية، ولا ينتظره. قد تتواصل اللحظات دو ن أن يلتقط طرف خيط البداية، أو يخاصم الإبداع. يجري على الورقة بخطوط متوازية، ومتقاطعة، ومربعات، ومستطيلات، ودوائر. أي شيء يتحرك به القلم.
كانت تلك عادة محفوظ في الكتابة طيلة سني عمله الوظيفي. تغيرت قليلًا في رحلة المعاش، وتغيرت كثيرًا بعد أن صار موظفًا عند نوبل – التعبير له! – لكن الذي أستطيع تأكيده أن صلة محفوظ بالمسودات كانت تنتهي بعملية الطباعة من جمع وبروفات ( كان سعيد السحار يجريها بنفسه ) ودوران المطابع، ليجلس نجيب محفوظ على كرسي بجوار ” البنك” الصغير الذي يجلس عليه الدكتور صلاح سعيد السحار، أمامه نسخ من الإصدار الأحدث، وينقل – من كراسة – أسماء الذين يخصهم محفوظ بإهداءاته، وبعبارات يطيل تقليبها في ذهنه، وخط مـتأنق ( أذكر إهداءه الرقيق لشخصي المسكين على رواية له” إلى فلان، موهبة الشباب، وشباب الموهبة، وكما يبدو فقد كنت في سن تسمح بهذا الإهداء )، ثم يلقي السلام بطريقته المعهودة، يرفع راحة يده اليمنى إلى جانب جبهته، ويخفضها، ويمضي.
لعلي أستطيع القول – باطمئنان – أن عمليات إصدار كتب نجيب محفوظ ظلت على ذلك النحو. ربما حتى ” أصداء السيرة الذاتية” التي راجعت بروفاتها الطباعية قبل إصدار طبعتها الأولى. نشرت الرواية في الأهرام وأخبار الأدب، لا أذكر أيهما كانت الأسبق في النشر، لكن نبش الفراخ – أعتذر للتشبيه – الذي صار إليه خط أستاذنا الرائد بتأثير الطعنة الحمقاء، فرض الصعوبة على عمليتي النقل بالكمبيوتر، والمراجعة.
فوجئ سعيد السحار برفض محفوظ نشر ” الأصداء” حتى لا يتكرر الخطأ في طبعة الكتاب، ثم وافق على عرض السحار أن أتولى – مرحبًا – مراجعة النص المكتوب بخط اليد على البروفات.حاولت – ما أسعفنتي قدراتي – أن تكون كل كلمة كما كتبها محفوظ، وفي موضعها السليم، ثم سلمت المخطوط إلى السحار، ليعيد المراجعة ( بالمناسبة، فباستثناء توفيق الحكيم، فإن تصويبات سعيد السحار شملت كل المبدعين الذين نشر أعمالهم! ).
ظلترحلة ” النص ” من يد محفوظ إلى يد الناشر على حالها، منذ أعماله الأولى، حتى قرر أمير السحار قصر مطبوعات مكتبة مصر على كتب التراث. لم يحتفظ عميد الروائيين بمسودات أعماله، لأن صلته بالمسودة كانت تنتهي بعد مراجعتها على نسخة الطباعة، قبل أن تدور بها المطبعة.
من هنا، فإن القول بأن نجيب محفوظ كان يمزق المخطوط الأصلي للنص فور طباعته ويلقي به في سلة المهملات، قائم على تصور غير صحيح، لأن الاحتفاظ بالمسودات الخطية كان ضرورة – في تقدير سعيد السحار– لمراجعة ما قد يحتاج – في توالي الطبعات – إلى إعادة نظر. وكان ينشر من كل كتاب لمحفوظ – في زمن تعداد سكانه 30 مليون نسمة – طبعتين، كل طبعة خمسة آلاف نسخة، الأولي في بداية العام، والثانية في منتصفه، أي عشرة آلاف نسخة من كل رواية.
وبعد نوبل محفوظ صار كل ما يتعلق بالمؤسسة المحفوظية مصدرًا للاهتمام، حياته البيتية، وأسرته، وعائلته، ومسقط رأسه، وأصدقاؤه، ومجالسه، وهواياته، وآراؤه السياسية، والمهمل من أوراقه الإبداعية والشخصية.. كل ما يضيف إلى صورة نجييب محفوظ في أعين محبيه.