العولمة – كما تعلم – وليدة الثورات المتلاحقة منذ نهايات الحرب العالمية الثانية: العلوم والتكنولوجيا والاتصالات والجينات والهندسة الوراثية وغيرها من الثورات التd جعلت العلم مصدرًا أساسيًا من مصادر الإنتاج، وجعلت الاتصالات سبيلًا لتحول العالم إلى قرية كبيرة، من خلال البث الفضائي، والشبكة العنكبوتية، الإلكترونية.
العولمة تعريب للمصطلح الإنجليزيGloblization . إنها تهدف إلى وحدة العالم الذي نعيش فيه، وهو ما يفرض تساؤلات حول تأثير العولمة على العمليات الحضارية، والتعرف – بكيفية أعمق – إلى الحضارات والثقافات المختلفة، وإلى حساسياتها، فضلًا عن توسيع سبل تبادل المعرفة بين الحضارات والتفاعل الإنساني الخلاق.
العولمة – في تقدير البعض – هي سرعة تدفق المعلومات والأفكار والسلع والخدمات ورؤوس الأموال والبشر من مكان إلى آخر في امتداد الكرة الأرضية، وعلى حد تعبير السيد ياسين، فقد أصبح سكان الكوكب جميعًا قادرين على متابعة الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية لحظة وقوعها، مما خلق نوعًا من أنواع الوعي الكوني، غاية مداه ثقافة كونية لكل البشر. وثمة رأي مقابل، يجد في العولمة نوعًا من الاستعمار.
تجد العولمة تطبيقاً عمليًا لها – وهذا مجرد مثل – في الإنترنت الذي يستطيع به أي شخص أن يخاطب من يشاء في امتداد العالم الواسع، وأن يفيد مما يزخر به هذا الإنجاز التكنولوجي في البحث عن المعلومات التي يحتاج إليها، بصرف النظر عن طبيعة تلك المعلومات. العولمة هى التعبير – بأجلى صورة – عن ثورة الاتصالات التي يعيشها العالم، منذ أواسط القرن العشرين، والتي انعكست تأثيراتها على العالم جميعًا، لا تفرقة فى ذلك بين دولة متقدمة ومتخلفة.
نحن نعيش في خمس قارات، في قلب ستة محيطات.في ضوء التقدم العلمي والتكنولوجي المذهل زالت المسافات، وانمحت الحدود الجغرافية، وتحول العالم – حقيقة لا مجازًا- إلى قرية كبيرة، يستطيع كل من فيها أن يخاطب الآخرين في القرية نفسها. يسأل، ويجيب، ويحصل على المعلومة، ويبدي الرأي، وكل ما لم يخطر بالكثير من الأذهان، قبل أن يتوسع استخدام هذا الجهاز العجيب المسمى ” كومبيوتر “، والاختراع الثاني الذي لحقه، واتصل به، وهو الإنترنت.
لكن السؤال يطرح نفسه: هل العولمة تعنى انتشار التكنولوجيا الحديثة من الغرب المتقدم – علميًا وتكنولوجيًا واقتصاديًا ـ إلى أماكن أخرى في العالم تعاني التخلف ؟ هل تحمل العولمة تأثيرات سلبية على الهوية الثقافية للدول ذات الحضارات القديمة؟ وهل تمتد تلك التأثيرات، فتزيح اليقين الدينى، وتفرض العلمانية بدلاً منه؟
ثمة ما يشبه الإجماع على أن القوى الاقتصادية الرئيسة الأهم هى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان، باعتبار حجم تقدمها العلمي والتكنولوجي، وسيطرة صادراتها على معظم أنحاء العالم. أضيفت إليها – في العقود الأخيرة – قوة الصين الاقتصادية التيقفزت -يشاركنيالرأي كثيرون – إلى المقدمة بين تلك القوى الاقتصادية الأهم.
ولعله يجدر بنا أن نشير إلى أن تبني سياسة العولمة – اقتصاديًا- لا يعني تبني النهج الاقتصادى في إطلاقه. إن لكل مجتمع ظروفه الاجتماعية الثقافية والاقتصادية، وهي ظروف يجب مراعاتها، وبالذات في سياق عالم ما بعد الحداثة الذي شهد اختفاء النظريات الكبرى شبه الثابتة، وسقوط الحتميات، وتغير الخريطة الجغرافية والسياسية لعالمنا المعاصر.
ولاشك أن رياح التغير قد أصابت حتى الخيمة البدوية التي ترمز – على نحو ما – إلى مجتمع محدد، وعصر محدد، فى تاريخ هذا المجتمع.
العولمة – في تقدير معظم الآراء – تعني إخضاع الثقافات القديمة، الحقيقية، لثقافة طارئة قوامها الاستهلاك المادي، وأنها – العولمة – تعني السير بالثقافات المتعددة نحو ثقافة أحادية، هي البديل السلبي للتعدد الثقافي.
والعولمة – في التقدم العلمي – تهدف إلى سيطرة الشركات المتعددة الجنسيات على مفردات الإنتاج، والتصدير والاستيراد، وتقليص دور الدولة، وإلغاء الحدود القومية. وترتكز العولمة الأمريكية على إنجازاتها المتلاحقة في مجالات العلم والتكنولوجيا – تكنولوجيا الاتصالات بخاصة – وهي إنجازات أفادت البشرية بلا جدال، لكنها تبين عن المعنى المغاير إن اقتصر تطبيقها لصالح بلد بذاته، دون بقية دول العالم التي أضافت إلى ثورة الاتصالات، بتراكمية العلم، وذوبان الحدود. الولايات المتحدة دولة متقدمة، لكنها لا تستطيع أن تعزل تقدمها عن بقية دول العالم. إن أصداء الأحداث والفعاليات تشمل العالم جميعًا، ولا تقتصر على دولة دون سواها.
أتاحت ثورة الاتصالات إحداث تغييرات عميقة في بنية النظام العالمي، لم يعد الفضاء المعلوماتي مقتصرًا على بلد، ولا مجموعة بلدان، لكنه مثل براحًا لكل من يحيون في هذا الكوكب، وهو ما سمي بالعولمة.
المجتمعات الإنسانية في زماننا الحالي تقوم على أساس إنتاج المعرفة من خلال تنمية الإبداع الفردي والجمعي، في مقابل الاقتصار على استهلاك المعرفة. والأمثلة – كما تعرف – لا حصر لها.
والثابت تاريخيًا، أن فكرة الكومبيوتر لعالم ياباني، ثم أخضعه العلماء في الولايات المتحدة ـ ليسوا كلهم أمريكان! ـ لتجارب وتطبيقات وتطوير وإضافات إلى الصورة المتقدمة الحالية لثورة الاتصالات على مستوى العالم.
وبالطبع، فإن العولمة – في المفهوم الأمريكي- هس النمط الأمريكي في الأفكار، والتعامل، ونمطية الحياة، ووسائل الإنتاج. ولعل هذا كان هو الدافع للموقف الفرنسي الذي يرفض – بشدة -المؤثرات الأمريكية الثقافية.
العولمة – في تقدير فرد هاليداي – هي السعى إلى تحويل العالم كله إلى سوق شاملة للبيع والشراء، ارتكازًا إلى أن دول الغرب المتقدم هي التي تملك التفوق العلمي والتكنولوجي، وهو ما يتيح لها السيطرة والتوسع على أقطار العالم الأخرى.
إن مواجهة الثقافة العربية لخطر العولمة – إذا اعتبرنا العولمة خطرًا حقيقيًا – يجب أن تستند إلى مجموعة عوامل، في مقدمتها: جعل الحرية والديمقراطية والمشاركة في فعل المواطنة، أبعادًا قابلة للتحقيق، فلا تقف عند حد الشعارات المعلنة التي قد تثير الحماسة، لكنها لا تضيف شيئًا إلى حياة الفرد، أو حياة الجماعة.. ومنها : محاولة تجاوز الإقليمية الضيقة إلى فضاء ثقافي عربي، قادر على مواجهة التحديات في كافة مجالات الفكر والإبداع الإنسانى.. ثم الإسهام فى صياغة ملامح الثقافة العالمية، من خلال تعاون فعال بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى، بصرف النظر عن انتماءاتها الأيديولوجية أو العرقية أو الدينية.. بصرف النظر عن أي شيء، إلا أنها ثقافة قائمة على تفهم دلالات التعدد والحوار والاختلاف والتواصل والأخذ والعطاء.
وفي تقديري أن تأكيد ملامح الثقافة العربية، والتواصل مع الثقافات الأخرى بالتالي، يصعب أن يتحقق بغير الدور الحكومي ، بغير الدعم الذي يجب أن تبذله الدولة.. لكن العبء الأكبر في أداء ذلك الدور هو واجب الهيئات والمؤسسات الأهلية. إنه دور النقابات المهنية والجمعيات وغيرها. وهو دور يفترض أنه يتسم بدينامية وخروج على الصيغ التقليدية التي يتسم بها – فى الأغلب – أداء الأجهزة الحكومية.
*