حين تتصل إقامتى فى مكان ما، أو أتردد عليه بضع مرات، فإنى آلفه، يصعب أن أفارقه، أو أبتعد عنه، إن لم أكن أقطن، أو أعمل، فيه. تنتفى الملامح العامة للمكان وسط الأماكن الأخرى التي تؤدى دوره، تصبح له خصوصية، تتشكل فيه صداقات وذكريات. أحرص على زيارته فى كل مناسبة، وربما بلا مناسبة.
المكان المصرى – هذا هو التعبير الذى يحضرنى ـ يعكس الحضارات التي توالت على الأرض المصرية، ما بين فرعونية وهيلينيةوبطلمية وقبطية وإسلامية عربية. إنه يعكس التواصل الثقافي منذ نشأة الحضارة إلى زماننا الحالي، ليس في مجرد المظاهر المادية، وإنما فيما يتصل بتلك المظاهر، ويحيط بها، من سلوكيات وفنون ومعتقدات وتقاليد وأنماط حياة.
ثمة المكان الثابت، كالشارع والبيت والقهوة والمسجد والتكية والبار إلخ .. والمكان المتنقل كالحنطور والسيارة والترام وغيرها.
مع ذلك، فإن المكان في العمل الأدبى يتحول من الثبات، السكون، الجمود، إلى ديناميكية متحركة، يتحول من مجرد إطار، أو أرضية، إلى عنصر مشارك في العمل الأدبي، إلى واحد من أبطاله. بل إنه قد يصبح هو البطل الأول، أو الأساس.
والأمثلة لا تعوزنا.
والمكان بعد مكمل لبعدي الشخصيات والأحداث في الأعمال الإبداعية السردية، وإسقاط علاقة المكان بالشخصيات والأحداث يسربل العمل الإبداعى بغموض، يصعب على القارئ تلقيه. العمل السردى – كما أتصوره – يتألف من ثلاثة عناصر هى: الشخصية، الحدث، المكان. والتعامل مع عنصرين منها دون العنصر الثالث يشبه نزع رجل من طاولة ذات ثلاثة أرجل.
ثمة من يرى مدى توفيق الكاتب في أن يجعل القارئ يرى المكان. وعلى حد تعبير ريكاردو جولون، فإن ” المكان في جوه الخاص، يكاد يكون له قوام ملموس، وعلاقته بالأشياء على درجة من العمق تجعلني أغامر بالقول، بأن المكان مشتق من هذه الأشياء، بينما هو – فى الوقت نفسه – الذي يمنحها الشكل”. وقد كتب جورج ماتوريه عن ” المكان الإنسانى”، وجاستونباشلار عن” شاعرية المكان”، وميرلو بونتى عن ” ظواهر المكان ” إلخ.
وإذا كان بعض الكتاب قد جعلوا من المكان بعدًا رئيسًا فى أعمالهم، فلعله يمكن وضع نجيب محفوظ في مقدمة هؤلاء الكتاب. المكان هو ” الشخصية المحورية ” في غالبية أعمال محفوظ : القاهرة الجديدة، خان الخليلى، زقاق المدق، بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، حب تحت هضبة الهرم، حكايات حارتنا، بيت سيء السمعة، الكرنك، خمارة القط الأسود، قشتمر، إلخ . يقول: ” المكان عندى له بطولة”.
لعله مما يحتمل المناقشة أيضًا- في ضوء ذلك – ما ذهب إليه أندريه ميكيل من أن نجيب محفوظ ” كاتب مدينة “، لكن خصائص المدينة فى أعماله” مثارة أكثر منها موصوفة”. بوضح ميكيل رأيه بالقول: ” ولنأخذ – على سبيل المثال – ضجيج المدينة. لقد عشت أربعة أشهر متواصلة في أحد أحياء القاهرة الشعبية، بالقرب من سيدنا الحسين، في مكان يشد العين أكثر من الأذن. وأنا أعلم الثراء الخارق، المتنوع، لمذاق لياليها وأيامها، لكنك لا تجد عند نجيب محفوظ أي تصور مجسد لهذه الحياة، ولا لإيقاعها البسيط. وقد يرد تصوير هذه الأشياء في مصادفة أحداث الرواية، ولكن لا يوجد هنا على التأكيد، مثل ما يوجد عند بروست من رسم سيمفونيته لضجيج باريس”.
كانت المدينة لندن مبعث استلهام إليوتقصيدته الشعرية ” الأرض الخراب “، وكانت المدينة باريس هي البيوت والشوارع والأزقة والحانات التىي تنقل فيها أبطال بلزاك وزولا وفلوبير وستندال وهوجو وغيرهم، وكانت مدن الأندلس نبض قصائد لوركا. وأحيانًا، فإن الموضع فى المدينة، البناية، والمقهى، والجسر، والشارع، والميدان، والجامع، والكاتدرائية.. هو نبض العديد من الأعمال الأدبية، ما بين قصائد وروايات وقصص قصيرة. أذكرك بجسر نهر درينا ( إيفوأندريتش: جسر على نهر درينا ) وجسر بروكلين ( وولت وايتمان : قصيدة على جسر بروكلين ) وكاتدرائية نوتردام ( فيكتور هوجو : أحدب نوتردام ) إلخ.
بالطبع، فإن المكان لا يقتصر على معناه الجغرافي فقط، وإنما يكتسب أبعاداً جديدة، تجاوز الدلالة المباشرة. المكان ليس هو الأرض والسقف والجدران، ولا الأثاث، ولا السكان المحددين. المكان هو العالم، أو القضية، أو حيث تقيم الجماعة. ولعل سماته وناسه غير ما تدل عليه الصورة الظاهرة.
نحن إذ نتحدث عن المكان، فإننا لا نعنى المكان بصورته الساكنة، الثابتة. لا نعني أي مكان والسلام ، وإنما نعني المكان بصورته الدرامية، بتأثره بما حوله، ومن حوله، وتأثيره فيما حوله، ومن حوله، وإسهامه فى مسار الأحداث، بحيث يصعب إغفاله، أو أن إغفاله يؤثر في بنية العمل الفنى.
الناس فى القصة والرواية والمسرحية والفيلم السينمائى يتحركون في الشوارع والبيوت والمصالح الحكومية والمصانع والحقول والدكاكين وغيرها. إنهم ناس كثيرون، يهبون للوحة – أو اللوحات – الفنية، خلفيتها البشرية التي قد لا يعنى المتلقي تأمل جزئياتها وتفصيلاتها، لكن القلة القليلة هي من ينطبق عليها – في العمــل الإبداعي- لفظة” شخصيات”. المجموعات يشار إليها باعتبارها كذلك. لن يستوقف الفنان الإشارة إلى نوعيات أفرادها، ولا أسمائهم، ولا ملامحهم الجسدية أو النفسية. الأمر نفسه – طبعًا – بالنسبة للمتلقى. عدسة الكاميرا في الفيلم السينمائى، تلتقط لنا صورة المدينة، ثم تقترب من بيت بالذات، ومن شقة بالتحديد، ثم تنتقل الصورة إلى داخل الشقة لتصور الشخصيات والأحداث، يبدأ بهم – ويتصل – مسار العمل الفنى إلى نهايته.
زقاق المدق – مثلًا – ليس مجرد اسمرواية، لكنه ” شخصية ” رئيسة في الرواية. إنه الوعاء المحدد الذى يحتوي سكانه، بظروفهم الاجتماعية والثقافية والنفسية، بل وبتباين تلك الظروف.. وهو تباين محسوب على أية حال. الزقاق هو الشخصية الرئيسة التي تحتوي- وتلقي بظلها على – الشخصيات والأحداث، بحيث يخضعها لظروفه، دون أن تخضعه لظروفها.
هل كان أحمد أفندى عاكف يشعر بدبيب الحب الغائب عن حياته أربعين عامًا-ـ هى كل عمره – لولا النافذة التي تطل على نافذة الجيران في خان الخليلى؟.. وهل كان يتاح لفهمي عبد الجواد ومريم حواراتهما الساذجة، لولا التقاء سطحي بيتيهما ؟.. وكيف كانت تقوم العلاقة بين سنية ومصطفى في عودة الروح ، لولا إطلالة شرفة كل منهما على الأخرى؟.. وكيف كان يتعرف سليم إلى سنية، لولا جلسته في القهوة المواجهة لبيتها؟.. وإلى أين كان يمضي كامل رؤبة لاظ ( السراب ) بـ ” عقدته ” إن لم يلمح عطيات – مصادفة – في جلسته على قهوة النوبيين، وهي تطل من شرفة البيت المقابل؟
قيمة المكان كذلك أنه يهبنا الإيهام بالواقع، فلا يصبح العمل الفني مجرد خيال فنان. عندما أحدثك عن شارع حقيقي ، عن ميدان حقيقي، عن مسجد حقيقي، فمعنى ذلك أني أتحدث عن حدث حقيقي، وشخصيات حقيقية. بل إن نجيب محفوظ – تحقيقًا للإيهام – يذكر المكان فى جمل من كلمات قليلة، مثل قوله: ” هكذا اخترقا الممر والقرافة نحو الخلاء والجبل “( الحرافيش ). وهو يتحدث عن المعالم التي رسخت في وجدان الحارة مثل ” التكية والقبو والقبر والسور العتيق ” ( المصدر السابق ). ولعله من هنا جاء القول إن نجيب محفوظ ” يكتفى بالخطوط العريضة والملامح العامة للمكان “.
المكان يتصل بالزمان من حيث موت ناس وولادة ناس، انتهاء أحداث ونشوء أخرى، تغير ملامح إلى الأفضل، أو إلى الأسوأ. ما كان يضمه المكان بالأمس – ملامحه وقسماته – يختلف عما أصبح عليه اليوم، ويختلف عما سيصير إليه فى المستقبل. يتداخل المكان والزمان بتوالي الأحداث، وعلى حد تعبير جون برين، فإن الناس هم الأماكن ، والأماكن هي الناس، ويختلف إحساس المرء بالمكان عن إحساسه بالزمان، في أنه إحساس يعتمد على المباشرة، يتحقق من خلال الفعل، والعلاقة الحسية بالأشياء. أما الإحساس بالزمان فهو – بالضرورة – غير مباشر. بل إنه لا يتساوى في مراحل العمر المختلفة، وإن ازداد تأثيره على الإنسان عندما يتقدم به العمر.
أما لماذا نحرص على الالتصاق بمكان محدد، بمنطقة بعينها، من المدينة، أو القرية، بل بشارع أو بيت من بيوتها، فلأننا ” نعرف الساكنين معنا وحولنا، ونأتنس بهم، وجزء من خوفنا أن نغادر ذلك البيت أو الحي، ونقطن فى غيره، وكما يقول ديكنز في ” الصغيرة ديترويت ” فلعل السجين نفسه يبدأ يلين قلبه نحو سجنه، بعد إطلاق سراحه ” ..
أذكر قول جابرييل جارثياماركيث: لقد نظرت إلى الحدود الصغيرة لبلادي وناسها، ولم أنظر إلى الآخرين.. وهو ما ينطبق على إبداعات الكثير من الأدباء التي عكست ارتباطهم بمدن، أوقرى، ولدوا، وعاشوا، فيها، فترات من حياتهم: جوتة وولاية تيمار، ألبير كامى ووهران، دانتى وفلورنسا، جيمس جويس ودبلن ، يحيى حقي والسيدة زينب، حنا مينا واللاذقية، نجيب محفوظ والقاهرة، يوسف إدريس والبيروم ، سعد مكاوى والدلاتون، عبد المنعم الصاوي وكنيسة الضهرية، عباس أحمد والمحلة، محمد مستجاب وديروط الشريف، عبد الحكيم قاسم وطنطا، أحمد شمس الدين الحجاجى والأقصر، محمد الراوي والسويس، عبد الوهاب الأسواني وأسوان، محمد عبد المطلب وسوهاج، عبد العال الحمامصيوإخميم، الإسماعيلية ومحمود دياب، شحاتة عزيز وأسيوط، إلخ ..
ومن الأعمال التى يربط المكان أحداثها بأكثر مما تربط بينها الشخصيات: يوميات نائب فى الأرياف لتوفيق الحكيم، أحزان مدينة لمحمود دياب، قنديل أم هاشم ليحيى حقى، الأرض لعبد الرحمن الشرقاوى، الجبل لفتحى غانم، قاع المدينة ليوسف إدريس، السقا مات ليوسف السباعى، الشمندورة لمحمد خليل قاسم، أيام الإنسان السبعة لعبد الحكيم قاسم، وكالة عطية لخيرى شلبى، محب لعبد الفتاح الجمل، ، الهماميل لمصطفى نصر، بوابة مورو لسعيد سالم، اسكندريتى لإدوار الخراط ، زقاق السيد البلطى لصالح مرسي، لا أحد ينام فى الإسكندرية لإبراهيم عبد المجيد، فساد الأمكنة لصبرى موسى، حارة الزعفرانى لجمال الغيطاني، وكالة الليمون لسعيد بكر، تلك الرائحة لصنع الله إبراهيم، الزنزانة لفتحي فضل، وغيرها.
ولأني أورد أمثلة، ولا أسجل إحصاء، فلن أعتذر عن عدم ذكر أسماء الأمكنة، ولا الإبداعات التي لم تسعفني بها الذاكرة.