بقلم/د. محمود نسيم
ملجوظة: هذه الدراسة كتبها د. محمود نسيم قبل رحيله
استوقفتني وأنا أستهل قراءتي لنص “أرض الله” للكاتب محمد عبد الحافظ ناصف ثلاث نقاط تواترت إلى مع صفحاته الأولى النقطة الأولى تتمثل ابتداء من الإهداء وسؤاله الحاد: ماذا تنتظرون غير الساعة يشى الإهداء بإحساس كارثي، ويشير إلى أننا جميعاً على الحافة دقائق ونخطو داخل هاوية تمتد من زمن المسرحية وحتى اللحظة الراهنة.
يشكل الإهداء وهو يشير إلى الأصدقاء ويسائلهم عن ماذا ينتظرون ، يشكل مفتتحاً خفياً ودالا للمسرحية التي تستحضر زمناً كارثيا آخر، تساءل فيه شيخه الرائى والغاضب «عز الدين سؤالاً مماثلا و وتوجه هو الآخر إلى معاصريه الموزعين بين اللهو والتامر والخوف والسكينة الآثمة باحتجاج متسائل عن الانتظار على حافة هاوية، وهكذا – تطرح المسرحية عبر إهدائها وبنائها سؤال الانتظار وأسر الناس فى مطالب يومية، واحتجازهم داخل الضرورة والاحتياج فيما تتهاوى المدن العربية سليبة ومستباحة.
تشير المسرحية – وتلك النقطة الثانية – في تصديرها الأولى هی إلى عدم التزامها بالتتابع الزمنى لوقائع التاريخ، معتبرة أن الأساسي في المسرح الذى يتناول التاريخ ليس هو الوقائع أو الأحداث وإنما هو الرؤية والتصور الخاص، وتلك نقطة ، بدء صحيحة فكرياً وفنياً، فليس المسرح تسجيلاً للتاريخ ولا رصداً لوقائعه، وليس مرأة ورقية تنعكس عليها صور منقضية لأزمنة مضت ، ولكنه تصور يسعى إلى مساءلة التاريخ واكتشافه عبر امتداده الآن، وهنا.
النقطة الثالثة تكمن فى ابتداء اللوحات بجرس مزاد، وكأن التاريخ معرض محفوظات أثرية يزايد عليها بائع، ويتوافد لاقتنائها مشترون يعرفون قيمتها أو يودون الاحتفاظ بها وامتلاكها باعتبارها أيقونات زمن مضى معلقة على جدران قديمة، وربما يشير الجرس المتصاعد للمزاد إلى الحاضر ذاته. وفي كلتا الحالتين اللتين يشير إليهما المزاد الحاضر أو التاريخ، يصير المشاهد مشاركا في مزاد أو متفرجاً على معروضاته ، ويؤدى الممثل دوره في لعبة تأخذ إيهام التاريخ أو خدا ع المزاد، وتبدأ عبر ذلك بنية مسرحية مركبة تتداخل. فيها الأزمنة والوقائع والدلالات.
يبدأ الكاتب مشهده أو توقيعته المسرحية الأولى بحوار بين سلطان دمشق وقائد صليبي متحالفين ، فيما يشير تكوين المكان إلى سجن جانبي للشيخ الرافض، وعبر الحوارات الدائرة تتكشف الخيانة جلية لا يمسها سوى تعليق الصليبى الجارح، وهكذا، ومنذ البداية : علاقات واضحة غير ملتبسة وعالم منقسم باجتلاء بين الخائن والغازى والمقاوم، أى بين السلطان والقائد الصليبي والشيخ الرافض، وعبر تتابع المشاهد والسياقات والحوارات تظل المسرحية راصدة عالمها التاريخى القائم على صراعات واضحة وعلاقات محددة ولغة كاشفة، يتجلى ذلك في الهامش المسرحي الأولى الذي يبدأ فيه الكاتب نسج التكوين الإيماني للشيخ منذ صباه ، حيث نشهد انبثاق روح ممتلئة بعقيدتها أمام مكابدات جسدية، وإغواءات حسية، الإيمان هنا ، بمعنى ما خرج من الجسد، ليصفو الجسد ذاته الإدراك كلى لا تتخلله مكابدة ولا تنوشه غواية وهكذا يبدأ الكاتب تكوين مشهده الدال : صوت شيطان يغوى وفتى يتطهر من الإغواءات والابتلاءات بإرادة روح تؤمن لا باحتياجات جسد يريد والفتى في ذلك ليس شبيها لأحد وليس تكراراً حتى للأولياء والمتصوفة.
ينسج الكاتب تطهر الفتى وتكوينه الإيماني عبر الصورة لا عبر الكلمات، تأكيداً لخصوصية المسرح واتصالا كذلك مع سلطة الصورة لا إبلاغ اللغة (الصورة) تكمل أركان المشهد). ومن هنا يلقى الفتى الشيخ في ذلك المشهد الاسترجاعى جسده في بئر ماء بارد مغتسلا من الجنابة فى الفجر، لذع البرودة ينسل في أعضائه المرتعشة ليأتيه صوت يحمل إغواءه الأخير متجسدا في امرأة ترقص، ولكن الرغبة مجرد انخطاف جسدی عابر في روح فتى يرى الحياة إيمانا مجرداً ، فيقصى الرغبة ويمحو شوقه إلى الملذات العابرة توصلاً إلى النشوات الكبرى، فيتجدد ارتطامه بالماء البارد في بئر غير مرئي في خلفية المسرح، لأن المستهدف هنا ليس تجسيداً لحالة جسدية قدر ما هو تصوير لرسوخ التكوين الإيماني للفتى وفق هذا الاعتبار الذى يمثله الكاتب : إن الصورة تكمل المشهد.
هذا اختبار أولى للفتى الذي سيصير شيخا يدور في مداره العالم المتخيل للنص، وأعنى اختبار الخروج من الرغبة سواء كانت التذاذا حسيا أو إشباعا لاحتياج، ليأتى بعد الاختبار اختيار بين العلم والعمل، ولكنه اختيار من تجاوز اختباره الحتمي، ولذلك يكتفى المؤلف بالإشارة إليه لغة وحواراً وليس صورة وتكوينا مشهدياً الاختبار اجتازه الفتى تخلصاً من الجسد وخروجا من أسر الرغبة والاختيار صاغه الفتى بهدوء عقل ورسوخ بصيرة متوصلاً إلى أن العلم يهدى إلى العمل، ومن هنا جاء اختيار العلم بعد ابتلاء الاحتياج الجسدى وحتى الآن – بعد الاستهلال والهامش يخط الكاتب إشاراته الأولى لشخصياته الأساسية وعوالمها المتصادمة وصراعاتها المتمحورة حول ما أسميه الأسئلة الأولى المتعلقة بالماهيات، وهي هنا : ما السلطة ؟ ما العقيدة؟ وما الارتباط بينهما في رؤى رجل الدين والأمير والغازي والعامة أيضا؟
وهكذا، بعد تلك الإشارات تبدأ اللوحة الأولى استقصاءها المسرحي الإشكال جوهرى ودام فى التاريخ والفكر الإسلاميين وأعنى مسألة خلق القرآن والخلاف حول حدوثه أم قدمه، يطرح الكاتب الإشكال القديم لا لكى يبحث في أصوله وتفرعاته وإنما لكي يشير إلى افتراق رؤى الشيوخ التقليديين عن تصورات الشيخ العز بن عبد السلام، وهذا يعنى أنه يستهدف رسم صورة أولية لصراع الشيخ مع الرؤى الجامدة وبناء نص تدريجى يتصاعد إلى صراعات أخرى. السلطة الفاسدة ، وتنتهى اللوحة الأولى بمكيدة الشيوخ مع اصطيادا للشيخ المتمرد على أفكار الفرق التقليدية والخارج على مواضعات سلطة ترى الوطن صفقة غزو وغنيمة حرب. ويبدأ مشهد تال بصوت الشيخ مكتملا فى بهاء اليقين ومتجسداً في رسوخ العقيدة، متحدثا في حلقة علمية عن عدو يقف متربضاً أمام حدود مستباحة، ولكن رجلا يستدرج الشيخ من حديث العدو إلى شرك الجدال الفقهى حول خلق القرآن طالبا منه كتابة موقفه في ورقة، يفطن الشيخ إلى المكيدة. ولكنه يدخلها طواعية وكأنه يدخل اختبارا أخر، ليس تخلصا من الرغبات هذه المرة، ولكن دخولاً في قدره الشخصي. وابتداء من نقطة الاختيار تلك، تشتبك العلاقات في النص مكونة رهان المصير واختبار اليقين ركز النص قبل ذلك على ا التكوين الفردي للشيخ ونسج ابتلاءاته الذاتية ولحظات احتدام صراعاته مع إغواء الرغبة وانبثاقها الجسدى، كان المدار قبل المكيدة داخليا متراوحا بين قلق الروح وجذب الغوايات، ومع قبول الشيخ الطوعي شرك المكيدة ودخوله قدره الشخصي، يبدأ النص نسج الصراع بمعناه الوجودي والاجتماعى معا صدام العقيدة والسلطة، الجامع والقصر الدين والدولة الشهادة والخيانة، ولذلك يغدو طبيعيا أن يأتي المشهد التالي منقسما إلى مساحتين منفصلتين ، إذا بدت الإضاءة في واحدة اختفت الثانية، المساحة الأولى للسلطات والثانية للشيخ مساحتان متضادتان ، بصريا ودلاليا ، تعكسان انفصالا في المسرح، وافتراقا في التاريخ، وعبر المساحتين تبدأ لعبة المصائر وحركة الصراعات.
وتتجسد اللعبة فى مفارقة دالة المساحتان منفصلتان كما أشرت ولكنهما متواصلتان عبر الرسائل في المساحة الأولى يقف السلطان منفردا يقرأ رسالة الشيخ ويملى ردا عليها ، وفي تضاد
في الصورة وانفصال فى الموقف وتواصل فى الرسائل، وتظل تلك البنية الثنائية مهيمنة على مسارات النص ومشكلة علاقاته وبناءه اللغوى والبصرى، ثنائيات متضادة تعكس – وتلك مفارقة ثانية – انفصال الشخصيات واشتراك الأقدار الشخصية لهم، تضاد الاختيار وتداخل المصير.
وتظل تلك الثنائيات المتضادة مهيمنة على مسار العلاقات في النص، وذلك. رغم تبدل الشخصيات وتحول الأسماء ، فالملك الأول المستغرق في إشكاليات الفقه يموت متصالحا مع الشيخ مغيرا وجهة جيشه نحو الغزاة، ولكنه يفعل ذلك فى لحظاته الأخيرة ليظل التصالح أمنية محتضر، والقرار الصائب كلمات منسية، حيث يحل ملك ثان ويمحو أثر التصالح ويغير الاختيار الصحيح، منشغلا هو كذلك لا بالجدل الفقهى ولكن بالنشوة والخمر والمباحات ، يرسل جيشه إلى مصر لا إلى الغزاة، ويدور في أبهاء قصره بحواس مخمورة وأعضاء منتشية بالسكر والشراب، وهكذا يبدأ سفر الخروج الأول وفق عنوان اللوحة الثانية بإشارته التوراتية وإحالته إلى العهد القديم وأسفار الخروج العبرانية، وقطعا ليست هناك صلات لا على مستوى الدلالات أو التواريخ أو العلاقات بين النص الدائر كله في سياق تاريخى ومناخات دينية وبين الخروج العبراني من مصر القديمة، ولكن المؤلف ربما يقصد خروجا موازيا من الأرض والتاريخ لأمة يحكمها ملك لاه مخمور ويحميها جيش يحارب في المكان الخطأ، ويشغلها فقهاء مستغرقون في قضايا شكلية، ولا يبقى منها سوى شيخ يطل على حطامها ، شاهدا وشهيدا. أباح الملك الوارث عرشا لامعا فوق أنقاض المدينة، أباح الحانات واللعب اللاهى والمجون الحسى، بينما يقف الشيخ حائرا متسائلا عن المباحات والتحالفات الخفية مع الغزاة، المفاسد والمجون في الأسواق والصليبيون عند الحدود، والأمة يقودها سلطان ماجن ويكتب سفر خروجها الأول.
وفي مشاهد متتابعة ، ينسج الكاتب صورة مدينة مستباحة يشترى أعداؤها السلاح من أسواقها، ويطوفون في شوارعها أمنين ولاهين ، ولا يشعر سكانها سوى القليل منهم حرجا في تبادل المنافع والبضائع معهم، ومن هنا تأتى فتوى الشيخ بتحريم البيع والشراء مع الأعداء جارحة وحادة واضعا السلطان وشيوخه أمام اختيار جذري لمصير الشيخ الذى أضحى وجوده في المدينة حائلا دون إتمام الصفقة مع الغزاة، وبعد مداولات وإشارات لاتباع الشيخ للسهروردي القتيل في فلسفته الإشراقية، تصاغ مكيدة أخرى يخرج العز بن عبد السلام على إثرها من دمشق لتخلو المدينة للصليبيين يجوسون شوارعها وأسواقها، ولسلطانها اللاهي المستغرق في مكائده.
وهكذا يبدأ الشيخ – وفق عنوان اللوحة – سفر خروجه الأول وتباح المدينة للغزاة.
وهنا – تبدو لعبة التبدل التى يجريها الكاتب في أسماء الملوك كاشفة عن رؤيته الثنائية التي أشرت إليها ، فوجوه الملوك تتبدل وأسماؤهم تتغير، وشخصياتهم تتحول مشكلين – رغم تلك التحولات . طرفا في ثنائية متضادة، بينما يبدو طرف الثنائية الآخر – العز بن عبد السلام – واحدا راسخا فى كلماته ومواقفه وصياغاته.
تلك اللعبة تكشف رؤية الكاتب التى تتخلل النسيج النصي كله، وأعنى رؤيته حول تبدل السلطة وثبات العقيدة، تحول وجوه الملوك ورسوخ ،الشيخ، وتلك رؤية مثالية لأنها تحول الشخصيات إلى معادلات ذهنية محلولة وفرضيات ثابتة غير متحولة المشهد الأول لشخصية الشيخ ذاته مشهدها الأخير، لا شي غير مكابدات هو روحية وجسدية مصاغة فقط للاستدلال على إرادته وطاقته الكامنة المتحملة للابتلاءات والمحن، وتأتى صراعاته. مع السلطة شاهدة هي الأخرى على رسوخه النهائى وثباته الأبدى، لا مسحة قلق ولا لحظة تردد ولا مس خوف، وهكذا تبدو الشخصية تصورا مجردا عن العالم والله، ويبدو الإنسان المندرج فى يقين العقيدة ذاتا مطلقة تعلو بنصها الديني طافية فوق التناقضات والصراعات وإن بدت منغمسة فيها ومتأثرة بها. وتلك نقطة أساسية ، فالشيخ يبدو مندرجا في
صراع العقيدة والدولة ذاهبا في صدامه إلى النقطة القصوى حيث الأسئلة الأولى والإختيارات الجذرية، وفي تلك النقطة الفاصلة، لا يرى الشيخ فارقا بين حياته وموته بين انتصاره واستشهاده، فهى بالنسبة إليه نقطة اليقين الوحيدة، نقطة إثبات نصه وصواب اختیاره، بينما يراها الملوك نقطة مساومة وإن لم تصلح فهي المكائد والصفقات.
ترتكز الصراعات والاختيارات هنا، وفق هذا التصور على نقطة مجردة يبدو فيها الشيخ والملوك ذواتا مطلقة تعبر كل منها عن وضعيتها الاجتماعية والوجودية رامزة إلى الدولة والعقيدة، وما الغزاة والعامة والأسواق والساحات والتاريخ إلا مسرح يتجلى عليه الصراع ويتجسد فى مشاهده الاختيار ويتأكد تحت اسقاطاته الضوئية الصواب.
في اللوحة الثالثة بتوقيعاتها ومشاهدها، يبدأ سفر الخروج الثائر يحيا الشيخ في مصر فقيها يمتلك عمودا في أزهرها ، وبيتا في عاصمتها ومكانة لدى سلطانها وأهلها معا في تلك اللوحة يمتلك الكاتب قدرة أكبر على بناء المشهد وطاقة أعمق على تحقيق شروط المسرح في اللوحتين الأولى والثانية، كان مدار النص صداما بين إرادتين ، إرادة مندرجة فى مشيئة الله وأخرى ممتلكة سطوة السلطة وهيمنة الدولة، وفى هذا الصدام لا وجود للناس العاديين إلا تناثرا على خلفية المشهد وتعليقاً على وقائعه وحضورا عابرا في مواقفه، وفى اللوحة الثالثة الأكثر امتلاكا للمسرح ينتقل الكاتب انتقالة كيفية فى بناء النص، حيث نجد البسطاء فاعلين في الحكاية ومكونين بدرجة أعمق للتتابع المشهدى والحواري، كان الشيخ منغمرا في قضايا كلية في دمشق متعرضا نتيجة ذلك للمكائد ، ثم حين خطا نحو قضايا الصراع الفعلية محرماً تبادل البيع والشراء مع الغزاة، خرج من المدينة طريدا قاصدا مصر، نازلا أرضها جالسا تحت عواميد أزهرها منغمرا بشكل كلى في أحوال الناس وشواغلهم العادية، ولذلك استحضر الكاتب البشر العاديين (العطار – الحداد – المتسول – الصبيان والنساء.. وغير (ذلك وملأ . بهم مشاهده في لوحته الثالثة ومن هنا يصير من الطبيعى اصطدام الشيخ مع السلطان مجددا ، فالفتوى هذه المرة تمس طبيعة الدولة وتهز بنيتها ، حيث أفتى الشيخ ببطلان زواج المماليك من الحرائر حتى يعتقوا الفتوى كشفت المسكوت عنه والمنسي والخفى في بنية الدولة وهيكلها فالمماليك – وهم بنيان السلطة وقوتها – عبيد لا حقوق لهم بما في ذلك الزواج (إلا) من إماء) ويصر الشيخ على الفتوى متجاوزا كعادته غضبة المماليك واعتراض السلطان الذى يجد نفسه في موقف مماثل السلطان توفيق الحكيم الحائر، إما لجوء إلى القوة أو امتثال للقانون في النص الستينى والشريعة في أرض الله.. تلك إشارة عابرة لتماثل ما بين النصين لا أود التوقف عندها طويلا ولا الاستطراد في قراءة التشابه ودلالته الكاشفة عن تغير السياق الاجتماعي والمعرفي وتحول المرجعيات التى كانت قانونا وأضحت شريعة ، والتي كانت وطنا وأصبحت أرض الله والتى كانت قاضيا وصارت مفتيا ، والتي كانت دولة حائرة بين القوة والقانون وأصبحت متعثرة ومفككة بين الشيخ والمماليك بين الشريعة) والشرعية. في خطوة أولى مرتبكة، يصر السلطان ويعلن موقفه الرافض للفتوى محتفظا بمماليكه ضد الشيخ الذى يبدو له الخروج اختيارا مجددا، ولكن الموقف الآن تغير جذريا بالتواجد الحي والفاعل للبسطاء فى اللوحة ، في سفره الأول امتثل الفقيه خارجا من دمشق يصحبه حارس حتى الحدود ليستمر في سيره منفردا حتى شارف مصر، والآن، في سفره الثاني، صاحبه البسطاء والحرفيون والفقراء ليصبح الخروج جماعيا، وترتد المحنة إلى السلطان الذي رأى مدينته خالية إلا من مماليكه، فيتراجع ممتثلا لنصيحة فاهمة تقترح بديلا ثالثا هو احتواء الفقيه والامتثال الظاهرى لفتواه، وذلك تشابه ثان مع نص الحكيم، ففى النصين يمتثل السلطان شكليا وظاهريا لحكم القاضي في الأول ولفتوى الشيخ فى الثانى، ومع الامتثال الشكلي تمر المحنة التي يبدو الجميع متواطنين على تجاوزها والمرور على إشكالياتها الفعلية.
وهكذا، يتقصى السلطان أثر الشيخ الخارج من المدينة ويعود به إليها محتفظا بدولته ومماليكه وشيخه سوى خسارة عابرة يتعرض معها المماليك لبيع علنى وشكلي، ويعود الفقيه محققا انتصاره العابر كذلك والمتسق أيضا مع رؤاه المتصالحة ، ويعود البسطاء إلى أشغالهم اليومية وقد ظهروا فى اللوحة أخيرا وصاغوا نهايتها التوفيقية.
وهكذا – تتسع أرض الله للشيخ والسلطان والناس، فيما يظل رنين جرس المزاد مترددا في المسرح إشارة إلى أن التصالح يمكن أن يكون اختيارا أو صفقة، وسير الحياة العادي في الشوارع يمكن أن يكون سلاما أو هدوء سابقا لعاصفة مقبلة، ومزاد المماليك يمكن أن يكون حلا وسطيا أو مقدمة لمحنة مؤجلة ، أسئلة واختيارات مفتوحة ينتهى بها النص طاويا محنة الفقيه وعذاباته مبقيا على ثنائياته المتضادة قائمة غير محلولة، فلم يمت الشيخ أو يقتل مثل سابقة الحلاج، بل ظل قابعا في داره يراقب الحياة وانشغالات الناس وحركة الأسواق ومكائد السلطة المتعارضة إذا شاعت مصالحها ، والمتصالحة إذا اقتضت الضرورة، مع شريعة يسعى الشيخ أبدا إلى انتظام الحياة وفق رؤيتها ، وضبط العالم في إطار نصوصها، وذلك في مسار دائرى تتكرر فيه المحن ويتجدد الصراع والاختيار ويتصادم الملوك والشيوخ والنصوص، بينما تبدو أرض الله جامعة للمتناقضات والثنائيات غير المحلولة، يطوى الناس فيها أيامهم، وتظل أسئلتها مفتوحة على احتمالات متعددة، ومزادها متسعا لمماليك جدد، وجرسها مترددا فى المسرح والتاريخ معا.