إذا كانت الحرب تنتهي بانتصار الطرف الأقوى علي الطرف الأقل قوة.. فإن ذلك ليس صحيحًا في كل الأحوال.
إن “ لعبة الحرب” – كما يسميها محسن محمد – لا تقتصر علي القوى المادية وحدها، ثمة عوامل أخرى، يتحقق من خلالها النصر أو الهزيمة، والدروس المستفادة من التاريخ القديم أو المعاصر، أوضح دليل علي ذلك.. وإن كان محسن محمد يقف عند أربعة دروس مهمة، قريبة ، تبدأ ببداية الحرب العالمية الثانية.
معركة بريطانيا:
منذ سبتمبر 1939 إلي نوفمبر 1942 – 38 شهرًا – وحديث الهزائم بفرض نفسه في كل المدن البريطانية.
كان الماريشال الألمانى روميل، قد أصبح أسطورة في إنجلترا، ليس بين الجماهير التي تتابع معاركه وانتصاراته في الشمال الإفريقى فحسب، بل كان الجنرالات الإنجليز يعتبرون رومل قائدهم، أكثر مما يعتبرونه قائدًا لألمانيا، واعترف تشرشل – أثناء المعارك الدامية – أن روميل جنرال عظيم!.
كانت كل المدن البريطانية مسرحًا لغارات الطائرات الألمانية. في غارة واحدة على كوفنترى دمر المئات من بيوت المدينة، ونصف باصات النقل العام، وتسعون في المائة من الخطوط التليفونية، واحترق 500 محل تجارى، وضربت كل خطوط السكك الحديدية التي تصل المدينة ببقية المدن الإنجليزية، ولم يبق في مدينة كلايدبانك الصناعية سوى سبعة بيوت فقط، من 12 ألف بيت، كانت تضمها المدينة، وتعرضت ليفربول ( المدينة التي تعتز بنجومية بطلنا محمد صلاح ) لغارات متواصلة علي مدى ثمان ليال متتالية، وفي بوتل كانت نسبة البيوت السليمة إلي البيوت المتهدمة واحدًا إلي عشرة، أما في العاصمة لندن فقد دمر 6 من كل 10 بيوت، وكانت البيوت تتساقط بمعدل 40 ألفًا كل أسبوع، وتوقفت معظم القطارات، واضطرت المستشفيات إلي استعمال الماء نفسه50 مرة، وبلغت
صفوف المنتظرين أمام محطات الباص 30 مترًا، ولجأ 177 ألفً من سكان لندن إلي انفاق المترو ينامون فيها كل ليلة ، علي الأرصفة!
مع ذلك، فقد كانت إرادة الصمود عند أفراد الشعب البريطانى أقوى من أرقام الخسائر. أصبح من دواعي مباهاة كل مدينة وتفاخرها، أن مظاهر الدمار فيها تفوق ما حدث في المدن الأخرى. وكان الخوف من الموت يسيطر علي المشاعر، لكن الضحكات كانت تحاول أن تجد وسط الظلام ما يدعو إلي التفاؤل والأمل.
ولما بدأ ( كومر) مهمته كوزير للإعلام، فإنه كان يدرك جيدًا ما تعنيه عبارة رئيس الوزراء تشرشل لا يتحقق النصر في الحروب بالكلمات. وكانت الوزارة جديدة، اختارت مقرًا لها جامعة لندن، وحدد كومر مهمة وزارته بالنسبة للجماهير بأن الرأى العام يحس بارتياح إذا أدرك أنه لا يعامل كطفل، وأن الناس ينتصرون في المعارك إذا فهموا ما هو مطلوب منهم. وملأت اللافتات كل مكان بالمدن البريطانية: ادخروا للنصر، تكلموا في التليفون أقل للنصر، وأصلحوا البدل والفساتين، وارتدوها مرة أخرى للنصر، تقبلوا كل شيء بالبطاقات للنصر، ونظمت المعارض والندوات وعروض الأفلام التسجيلية والحربية. ونشرت الوزارة صور الدمار الذي لحق بالمدن البريطانية، كانت تقول: نحن لا نكتفى بأن نحيا رغم هذه الغارات، ولكننا نقاتل أيضًا، وسمحت الحكومة ببيع كتاب هتلر “كفاحى” ليتبين الناس أهداف العدو وأغراضه التوسعية.
أعلن تشرشل في أول بيان له: ليس لدى ما أقدمه سوى الدم والعرق والدموع.. هدفنا العسكرى هو النصر، مهما كانت التكاليف. النصر مهما طال المدى، ومهما كان الطريق إليه شاقًا، وتعالوا نمشى إلي النصر متحديين.
وكان النصر – في النهاية- حليف هؤلاء الذين بذلوا الدم والعرق والدموع.
معركة ليننجراد:
حين بدأ هتلر حربه ضد الاتحاد السوفيتى، تقدمت القوات الألمانية 325 ميلًا، واندفعت في ثلاثة اتجاهات، في جبهة طولها 1500 ميل، وفي آخر يوليو 1944 كانت ليننجراد علي وشك السقوط، والطريق مفتوح إلي موسكو، وبدا الاتحاد السوفيتى علي وشك الانهيار. ثم بدأت البطولات كأنها أساطير، رفع الجميع شعار : لا خطوة واحدة إلي الخلف. فوراؤنا موسكو!
تمكن الألمان في 30 أغسطس1941 من إحكام الحصار حول ليننجراد، وأصبح سقوطها مسالة وقت، وأعد هتلر نفسه لحضور الاستعراض العسكرى لقواته في قلب المدينة.
وأعد رجال المقاومة خططهم – في المقابل – لكل احتمال، حتى احتمال سقوط المدينة في يد العدو، ونثروا المتفجرات تحت كل المواقع، وقالت القيادة: إذا كنا أحرقنا موسكو في وجه نابليون، فقد جاء الدور علي ليننجراد لتواجه هتلر، وتطوع مائة ألف مواطن في يوم واحد، وقام المتطوعون بحفر الخنادق، وإقامة السدود وبناء المواقع للمدفعية والدبابات، وتدرب الجميع علي حمل السلاح من سن الثامنة حتى الشيخوخة. وطالب الماريشال زوكوف قواده أن يكونوا في مقدمة القوات المدافعة، وقال لكل قائد: قل لجنودك، إذا انسحبتم اقتلونى، ولن تستسلم ليننجراد. وفقدت بعض الفرق الألمانية أمام المدينة 40% من رجالها، واضطرت القيادة الألمانية إلي تغيير خطتها، وقررت البدء بموسكو، ثم الاتجاه إلي ليننجراد، وظلت ليننجراد تقاوم مدافع الألمان، وتقاوم الضغوط الاقتصادية والنفسية الحادة. زرع الناس أشواك الصنوبر وفروع أشجاره، للاستفادة مما بها من فيتامينات. وكانت الإذاعة المحلية ضعيفة للغاية، وأجهزة الراديو قليلة جدًا، والبديل هو وضع الميكروفونات علي نواصى الطرق، وفي الميادين والمصانع، وكانت المدينة – أحيانًا- تضحك وتروى النكت، وتركت طالبة السابعة عشرة كراسة، سطرت بها هذه الكلمات” إننا في ليننجراد أسرة واحدة، رفضنا الحصار الوحشى، لنا حزن واحد، وحلم واحد وحيد وهو التحرير. وصورت آلاف الكيلومترات من الأفلام عن المدينة المحاصرة المقاتلة، لتعرض في دور السينما بعد النصر، فقد كان النصر حقيقة لا تقبل المناقشة، وفيل لشفارتز – كاتب قصص الأطفال حين قيد اسمه في سجل التطوع – إنك لا تستطيع أن تمسك بندقية، فأجاب ببساطة: هناك أشياء أخرى أستطيع أن أفعلها. وقامت راقصة البالية أولانوفا بنسج الشباك التي توضع في المبانى العامة والمصانع لتضليل طائرات العدو، واختار الموسيقى شوستاكوفيتش وظيفة مراقب لإطفاء الحرائق والغارات. وعلي الرغم من تأكيد محطة إذاعة برلين، أن ليننجراد ثمرة أوشكت على السقوط، فإن المدينة المقاتلة لم تسقط أبدًا، واستطاعت أن تقاوم 900 يوم متصلة.. حتى رفعت الحصار عنها أخيرًا واستردت حريتها!
معركة فرنسا:
بعد أن وقع الماريشال بيان وثيقة استسلام فرنسا، قال في تبرير موقفه : إن فرنسا ليست مسعدة أن تفقد مليونًا آخرين من أبنائها، وخاطب الفرنسيين قائلًا: أيها الآباء، لا تقدموا لأولادكم أسوأ نصيحة، لا تدعوهم للمقاومة.. انصحوهم بالعمل في ألمانيا!
كانت الظروف بالفعل تدعو إلي اليأس في الأرض الفرنسية، فقد بلغ عدد الأسرى ما يقرب من مليونين، غالبيتهم من الفلاحين، مما أثر علي المحصولات الزراعية بصورة حادة، وأوقفت وسائل النقل بسبب نقص الوقود، وعانت فرنسا من الحصار البحري الذي فرضته عليها بريطانيا بعد الاستسلام،
وأعلن وزير الداخلية الأمريكى في صراحة قاسية: لن أرسل رطلًا واحدًا من الدقيق لفرنسا حتى لو مات الملايين جوعًا!، وكتب الأديب الفرنسى الكبير أندريه جيد في مذكراته بمرارة أقسى: إن فرنسا لا تأمل في النصر، بل إنى أميل للقول إنها تستحيله!
لكن صوت ديجول، الجنرال الذى رقي حديثًا، ارتفع من بين أنقاض الهزيمة، يدعو الشعب الفرنسى إلي رفض الهزيمة والاستسلام، ويرفع شعار: لقد خسرنا معركة، ولكننا لم نخسر الحرب. ويعلن في تأكيد: إن العوامل التي أدت إلي هزيمة فرنسا، هي نفسها التي يمكن أن تصنع النصر!، وانتشرت منظمات المقاومة في كل المدن الفرنسية.. مجموعات صغيرة وكبيرة، بواب عمارة يشكل جماعة، الموظف مع زملائه يشكلون جماعة، الطبيب مع مرضاه إلخ ( أذكر فيلمًا رائعا عن تلك الجماعات من بطولة الممثل الأمريكي فيكتور ماتيور )، وكتب علي الجدران عبارات التحدى لقوات الاحتلال، وغطت علامات النصر كل مكان، وتعالي الصفير بنشيد المارسليز في الشوارع، وتعددت محاولات اغتيال جنود الألمان ، وترصد رجال المقاومة حركات الجنرال الألماني فون شومبورج، الذي عرف باسم جزار باريس، حتى قتلوه بقنبلة وهو في طريقه إلي مكتبه، وكانوا يبعثون بالمعلومات إلي الحلفاء عن أوضاع قوات الاحتلال.. وطلبت المقاومة إلي الشعب الفرنسى إخفاء عملات النيكل والبرونز، لأن العدو قد يستخدمها في التسليح، وقاطع العمال الفرنسيون مكاتب التشغيل التي أنشأتها قوات الاحتلال، وكانت الأسلحة تنقل في حقائب السيدات، وعربات الأطفال، وأكفان الموتي، واقتصرت محاضرات أساتذة الجامعات في تاريخ فرنسا، وأنتج طلبة كليات العلوم أسلحة للمقاومة. ودخل رجال المقاومة مقار الجيش الألمانى لسرقة الخطط العسكرية، وقاموا بإرشاد طائرات الحلفاء إلي المواقع الهامة لقوات الألمان. وبعد أن كانت الولايات المتحدة تعتبر مقر حكومة ديجول في المنفى مركزًا لتسريب الأنباء إلي السلطات الألمانية. استطاع الرجل الذى آمن بقدرة بلاده علي النهوض من أنقاض الهزيمة، وأن يحقق معجزة بلاده، بواسطة إيمان الفرنسيين أنفسهم ببلادهم، ونضالهم الشجاع من أجل تحريرها.
معركة فيتنام:
أعطت فيتنام مثلًا لإرادة الشعوب الصغيرة، حين أصرت علي انتزاع استقلالها، أيًا كانت القوى التى تواجهها.
بدأت الولايات المتحدة تدخلها في فيتنام بقوة صغيرة لا تتجاوز 1363 جنديًا، ثم مالبث هذا العدد أن تضاعف ، حتى جاوز نصف المليون، ثم بدأت الطائرات الأمريكية في قصف مدن فيتنام الشمالية منذ 1964، طائرات بلا عدد، وغارات مكثفة، وقنابل تفوق في طاقة الدمار عشرات القنابل الذرية، مع
ذلك فقد قاوم شعب لا يزيد عدد أفراده عن 14 مليون نسمة، أكبر وأغنى دولة في العالم، وأسقط الثوار آلاف الطائرات الأمريكية، وفقدت القوات الأمريكية 55 ألف قتيل، و300 ألف جريح، وكان السر وراء ذلك الصمود – كما عبر عنه رئيس وزراء فيتنام الديمقراطية -: إننا نقوم بحرب عصابات، ويجب أن يتوافر لدى أمريكا خمسة جنود مقابل واحد منا، وحتى هذا أيضًا لا يكفى.. أين روح القتال المطلوبة ؟ إننا ندافع عن بلادنا، بينما الأمريكيون يقولون لأولادهم إن دولة صغيرة في جنوب شرقي آسيا تهدد أمنهم وسلامتهم ، والشباب لا يصدق ما يسمع ، ويحارب بغير اقتناع، ولذلك ينهزم بسهولة.
وبالطبع، فقد ظل نضال شعب فيتنام حيا في الأذهان.
أخيرًا، فإن المحصلة التى تخرج بها من كل تلك التجارب – وغيرها – إن الشعوب وحدها تغزل وتنسج النصر، أيًا كانت القوى التى تواجهها. إن إرادة الحياة أقوى من كل القوى، إذا كانت هي الدرع التى يناضل من ورائها الإنسان.