لعلك تابعت تصريحات الساسة الإسرائيليين، تعليقًا على التوقعات بأن تحيل محكمة العدل الدولية رفضًا متوقعًا من إسرائيل لقرار المحكمة في الدعوى المرفوعة من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بتهمة الإبادة للشعب الفلسطيني في غزة.
كما ترى، فإن إسرائيل تستخف وتسخر من مجرد عرض مأساة الشعب الفلسطيني في غزة – المأساة متكررة في كل المدن والقرى الفلسطينية المحتلة – على محكمة العدل الدولية، حتى إذا اتخذت المحكمة قرارًا بالإدانة، فإن إسرائيل سترفضه. تحيل المحكمة قرارها إلى مجلس الأمن بصرف النظر إن حصل على أغلبية الأصوات، فإن الفيتو الأمريكي جاهز لتقويض كل شيء. تصطدم المحكمة بما يضعها في الموضع نفسه الذي يشغله مجلس الأمن في السياسة الدولية، فقرارها لا يجاوز التعبير عن حوارات” مكلمة”!
جلسات مجلس الأمن تذكرنا باللعبات التي كان يمارسها بعض طغاة التاريخ. يشارك الطاغية في لعبة لابد أن تنتهي بفوزه. إذا لم يحدث ما يريد فإنه يرفض النتيجة.
كشفت ردود الأفعال التي أعقبت غضبة المقاومة الفلسطينية في غزة دفاعًا عن حق الشعب الفلسطيني في ما تبقى من أرضه مدى الدعم الذي تلقاه إسرائيل من الولايات المتحدة، ومن دول الغرب الأوروبي بعامة. وهو ما انعكس في تحريك واشنطن لحاملات الطائرات والمدمرات والغواصات إلى مياه البحر الأحمر، ودفع قوات من الجيش الأمريكي مساندة لإسرائيل، الدولة التي فرضت وجودها في المنطقة بإيهام أنها القوة التي لا تقهر، وأعلن الرئيس الأمريكي أنه لو لم تكن هناك إسرائيل لاخترعها، وحرص وزير الخارجية بلينكن – في الزيارة الأولى من تعاقب زياراته إلى فلسطين المحتلة – على تأكيد يهوديته، وأن جده كان من ضحايا المحرقة النازية في الحرب العالمية الثانية.
نتجاوز ذلك كله، ونشير إلى أنه إذا كان لكل فعل ردًا متوقعًا، فقد طال التوقع من الفلسطينيين أنفسهم للرد على المذابح الإسرائيلية التي صارت حدثًا يوميًا في الأرض الفلسطينية. المشهد الثابت الذي يطالع مشاهدي القنوات الفضائية البيوت المدمرة ( يقوض المواطن الفلسطيني بيته بنفسه، أو ينسفه الجيش الإسرائيلي على نفقة صاحبه!) وجنازات الشهداء بأيدي الجنود أو المستوطنين الإسرائيليين.
شاهدت فيلما تسجيليًا أعده مثقف سعودي، تلقيته من الصديق الدكتور مجدي يوسف عن الأعمال الوحشية لمستوطني الأرض المحتلة، جنود ومستوطنين في الدولة العبرية، حرضتهم على الفعل الإجرامي دعوة وزير الأمن – لاحظ التسمية – بن غافير إلى حمل السلاح، وأرفق دعوته بالتوزيع العلني للسلاح على عشرات الألوف من المستوطنين. مشاهد يعود تاريخها إلى ما قبل السابع من أكتوبر، يصعب تمعنها، فضلاً عن تصديقها، عمليات جماعية وفردية غير مبررة، ضد كل ماهو حي وقائم في الأرض التي أتيح للفلسطينيين العيش فيها. حصار واعتقالات ومصادرة وتهجير وقتل وإحراق وتدمير، ما أملي على قصة عن جنديين إسرائيليين تشاغلا – من موضعهما أعلى بناية – بمراقبة شاب وفتاة فلسطينيين يتحدثان في الشارع الممتد أمامهما. انعكاسًا لما في النفس من كراهية مطلقة، أملتها الدعاوى الأسطورية والتاريخ الملفق والمناهج التي أطرتها المطامع الاستيطانية بمزاعم نسبت إلى الدين. ونتيجة للتنشئة التي أزالت من العقول حسها الإنساني، فقد راهن أحد الجنديين زميله على قنص الشاب الفلسطيني برصاصة، وقتل الشاب بالفعل، مجرد تسلية، تعبير عن الحقد والاستعلاء والكره وغيرها من المشاعر السلبية!
الغريب، والمؤسف، أن الولايات المتحدة تحاول ارتداء زي الشرطي الذي يحرص على السلام وحقوق الإنسان، لكن الأفعال هي الضد لكل الشعارات والمجاهرة بالمواقف العادلة. واشنطن تلوم إسرائيل على جرائمها ضد المدنيين الفلسطينيين، ثم تدعمها بأربعة عشر مليار دولار كي تواصل حربها المدمرة، ويجيب بايدن عن سؤال: تكلمت طويلًا مع نتنياهو، لكنني لم أطلب منه إيقاف الحرب!
كما تعلم، فإن قرار العنف- بداية من العراك اليدوي، وانتهاء بالحرب، يستهدف معنى محددًا، كالدفاع عن النفس أو الأرض أو القيمة في إطلاقها. أقسى صور العنف انطلاقها من الرغبة في العدوان، لا هدف في الأفق القريب أو البعيد، إنما الفعل، مجرد الفعل، هو مجرد التنفيس عن مشاعر لا يدري صاحبها كنهها، وإن لم تجاوز الرداءة!
مناقشات مجلس الأمن المستفيضة معروفة للجميع من قبل أن تبدأ الجلسات. تطرح الأسئلة والردود والأفكار المقنعة والأدلة التي يصعب التشكيك فيها. وحين يتبلور ذلك كله في مشروع قرار يقتنع به الجميع، فإن ممثلًا لواحدة من الدول الخمس المتمتعة بالعضوية الدائمة يرفع يده في هدوء قائلًا: فيتو!.. ويقش حق الاعتراض – بالطبع – كل الأوراق.
حق الاعتراض، أو الرفض، يقتصر على خمس دول من نحو مائتي دولة عضو في الأمم المتحدة، يمثل نهاية مؤسفة لكل القرارات والتوصيات العادلة التي يوافق عليها المجلس.
عدا الدول الخمس الدائمة العضوية – الولايات المتحدة تحديدًا – فإن المسودات التي يقترع مجلس الأمن عليها تظل بلا قيمة إن رفع المندوب الأمريكي يده بالاعتراض.
لكي أزيد الأمر وضوحًا، فمنذ أعلنت واشنطن اعترافها بالدولة العبرية، بعد إعلان قيامها بخمس دقائق، صدرت عشرات القرارات من الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكنها ظلت حبيسة ملفات المنظمة الدولية. كما اصطدمت القرارات التي عرضت على مجلس الأمن لمناصرة الحق العربي، بالفيتو الأمريكي، ليقضي على كل المحاولات التي استهدفت إدانة إسرائيل.
مجلس الأمن أشبه بملتقى يعرض فيه ممثلو الدول وجهات نظرهم، يقدمون الأدلة على صحة أقوالهم، وهو ما ينعكس على حصول مشروع القرار الذي يقدمه عضو المجلس بشأن قضيته على أغلبية الأصوات إلّا واحدًا، يكشف عبثية اللعبة، وأن مجرد رفض دولة واحدة دائمة العضوية يعني إلغاء مشروع القرار، كأنه لم يكن.
لعلي أستطيع القول إن مجلس الأمن بلا دور حقيقي. يقتنع المجتمع الدولي بعدالة قضيتك، ويساندها، لكن اتخاذ المواقف المؤيدة للحق تغيب أمام اليد المرفوعة بالرفض!
حتى يتحقق لمجلس الأمن ما يريده العالم من إرادة العدل والاستقرار والمساواة بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، فإن عليها أن تسعى لتعديل لوائح مجلس الأمن بما يمنع حق الاعتراض، أقصد حق الرفض الذي يحيل المجلس عنوانًا بلا محتوى!
لست قانونيًا، لكن خبراء القانون في العالم يملكون من الخبرات ما يتيح لهم تحريك البحيرة الساكنة بفعل الدول الدائمة الخمس التي قد لا تشغلها الأهداف التي أنشئ لأجلها مجلس الأمن، بقدر ما تشغلها السيطرة على قرارات المجلس فلا يصدر عنه إلًا ما يوافق سياساتها، أما ما يخالف تلك السياسات – بصرف النظر عن اقترابها أو ابتعادها من الموضوعية – فإنها تعاني الاعتراض، أعني الرفض!