حين التقينا للمرة الأولى، كنت أعرفه، ولم يكن يعرفني.
قدم إلى الجريدة باعتباره كاتبًا مصريًا مهاجرًا ، يبحث عن ترجمة لأعماله المكتوبة بالعربية إلى الإنجليزية.
قلت فى لهجة مداعبة:
– يا أستاذ فؤاد.. لماذا لم تستثمر الغربة في تعلم الإنجليزية ؟
حدجنى فؤاد القصاص بنظرة مستغربة:
– تعرفنى؟
تذكرته عندما طالعنى على باب مكتبى: قامته المتوسطة، والشعر القليل المهوش على رأسه، والعينين اللتين يصعب أن تطمئن إلى نظراتهما.
علا صوتي باللهجة المداعبة:
– من لا يعرف فؤاد القصاص؟
مثّل الرجل – بالفعل – ظاهرة أدبية، فى الفترة ما بين منتصف الأربعينيات إلى منتصف الخمسينيات. ربما كانت البداية في دواوين نزار قباني التي حققت له مكانة في قلوب المراهقين : قالت لي السمراء، طفولة نهد، سامبا، أنت لي، وغيرها.
كانت دواوين نزار قباني ظاهرة مغايرة لإبداعات تلك الفترة. أعوام قليلة مضت على رحيل المعلمين المهمين شوقى وحافظ، وكانت رومانسية أبوللو التي حلقت في سماء الشعر لا تزال تهب أصداءها. ورغم أني كنت – فى سنى الطفولة – قد عرفت، من كثرة الآراء والملاحظات والتنبيهات، أن نزار قبانى يختلف – بتناوله الجريء للمشكلات العاطفية – عن بقية الشعراء.
في تلك الفترة – أو نحوها – كتب إحسان عبد القدوس أولى مجموعاته القصصية” بائع الحب ” و” صانع الحب “، وروايته الشهيرة ” النظارة السوداء “، وظلت نظرة المثقفين إلى إحسان باعتباره كاتبًا سياسيًا، كتب القصة والرواية دون أن يدرك جيدًا – باعترافه – إن كانت كذلك، أم أنها أقرب إلى الكتابات الصحفية.
الرواج الذي حققته أعمال عبد القدوس بالعبارات الساخنة، والتلميحات المضمرة، والنقاط التي تدعو القارئ إلى ملء فراغها برؤاه وتصوراته.. ذلك الرواج مثّل – فى الأغلب – دافعًا للعديد من الكتاب، لإصدار كتب ذات عناوين مثيرة، مثل ” ليالى ديسمبر [ على الغلاف صورة امرأة تبحث عن الدفء ] وخذني بعاري، وذاكرة جسد، وأسماء أخرى، هدفها المعلن دغدغة المشاعر الحسية، بل واستلابها.
شارك فؤاد القصاص في اتجاهه الغرائزي – هذا هو التعبير الذي يحضرني – مجموعة من الكتاب، أشهرهم – فى ذاكرتى – عزيز أرمانى، وفاروق صادق المحامى [ لعل نسبة الاسم إلى المهنة ، اقتداء بالكاتب الكبير محمود كامل المحامي ]. صدر لهم العديد من الأعمال التي يشغلها أسفل بطن القارئ .
أتاح لي عملي الصحفي أن ألتقى عزيز أرماني – أهداني رواية له كي أنوه عنها – وتعددت زياراته.
حدست – من أحاديثه عن حياته الوظيفية والأسرية – أنه يعاني ظروفًا مادية قاسية. أضاف إلى حدسي قوله إنه كان يتمنى أن يكتب ما تمليه موهبته، وليس ما تريده السوق.
وكانت طبيعة عزيز أرماني المسالمة – نسبيًا – سببًا فى خسارته حق تقديم السينما رواية له – باسمه – هي ” نساء الليل “، قدمها إلى كمال الشناوي، الذي أنتجها، وقام ببطولتها. وحينما أبدى أرماني إنزعاجه من تفاهة المقابل المادي لقصته ، ابتدره الشناوى فى عصبية :
– حاتاخد الفلوس والا ما فيش خالص؟!
رفاق البار الذي كان يقضي فيه عزيز أرماني كل لياليه.. حرضوا الرجل أن يدفع دعوى على الشناوي، للمطالبة بحقه. ولجأ الشناوى إلى حيل قانونية، أفسدت دعوى أرماني، وضيعت حقه، وألزمته أن يدفع مصاريف القضية، وأتعاب المحاماة.
لم يعد عزيز أرماني إلى الكتابة منذ ذلك الحكم الصارم، أحزنه أن دعوى قضيته كتبها عرضحالجي أمام المحكمة، بينما لجأ الشناوي إلى محامين شطار، نشطوا في كتابة المذكرات والدفوع والتقارير التي تثقب دعوى عرضحالجي أرماني بعشرات الثقوب. أغرب شيء أن أرماني لم يحصل على مقابل حتى لاسم روايته التي صدرت قبل الفيلم بفترة طويلة، بالإضافة إلى أن أحداث الفيلم عانقت أحداث الرواية في علاقة حميمة .
عرفت من أصدقاء أن غيبة أرماني لأنه مات، ترك الدنيا ومن فيها.
أما فاروق صادق، فلم أتعرف إليه شخصيًا، وإن تابعت ما نشرته الصحف عن محاولة إنقاذ محكوم عليه بالإعدام من حبل المشنقة.
مضت الأعوام ، وها هو أحد فرسان تلك الفترة التى أسهمت – من ينكر ؟ – في تكوين الغالبية من مبدعي الجيل، لا يختلف في ملامحه عن الصورة التي كان يضعها على أغلفة كتبه.
حدثني فؤاد القصاص عن ظروف هجرته إلى كاليفورنيا بالولايات المتحدة، وأنه يصدر جريدة باللغة العربية اسمها ” المصري “، تعنى بأخبار الوطن، وأخبار الجالية المصرية في بلد المهجر.
تحمست – بتأثير كلمات القصاص المسرفة فى العاطفة – لتلبية طلبه بتزكية مترجم من العربية إلى الإنجليزية، يتولى ترجمة إحدى رواياته، وأضاف أنه يأمل أن يتم ذلك فى مدى أربع وعشرين ساعة.
كيف ؟
قال فى ابتسامة معتذرة:
– مهمة متعبة ، لكن المقابل سيكون مجزيًا .
عرضت الأمر على صديقي فتحى حمودة، يجيد العربية بالطبع، كما يجيد الإنجليزية كأحد أبنائها.
لم يناقش فتحى حمودة الأمر طويلًا ، ولا طرح أسئلة من أي نوع . ومع أنه كان ماركسي الهوى ، وله رأى سلبي في كتابات القصاص، فقد حرص أن ينهي الترجمة في الموعد المحدد، دفعه إلى ذلك مكانة القصاص القديمة في نفوسنا، نحن مراهقى تلك الفترة.
تملكنى التأثر وفتحي حمودة يغالب الإرهاق، وهو يدفع بالرواية، وترجمتها الإنجليزية، إلى فؤاد القصاص. كانت تلك – فيما أعلم – أول مرة يترجم فيها فتحي حمودة من العربية إلى الإنجليزية، وإن كنت قرأت له – ترجمة عن الإنجليزية – عشرات المقالات والقصص والدراسات، بسرعة الترجمة الفورية.
تأمل القصاص أوراق الترجمة جيدًا، ثم دسها فى حقيبة يده، ووعد أن يرسل شيكًا بقيمة الترجمة في اليوم التالي لوصوله كاليفورنيا .
مضت أيام، وأسابيع، وأشهر، وسنوات، دون أن يصل الشيك الذي وعد به الرجل. وكنت قد نسيت – في غمرة تحمسي – أن أطلب عنوانه، سواء في القاهرة، أو في كاليفورنيا، أو حتى في جهنم!
بدأ فؤاد القصاص حياته كاتبًا للمراهقين، وتحول – فى نهايات أيامه – إلى ما رأيت.
ولا عزاء لفتحى حمودة، ولا لكاتب هذه السطور. فالقانون لا يحمى المغفلين!