»» بقلم ✍️ د.حنان سالم
(دكتوراه الفلسفة المعاصرة – كلية الآداب -جامعة العريش)
قال تعالي : ” وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾[ الإسراء: 23].
إن الأمومة أعظم هبة خصّ الله بها النساء، والأمومة مشتقة من الأُمّ ، وأُمّ كل شيء: معظمه ، ويقال لكل شيء اجتمع إليه شيء آخر فضمّه : هو أُم له.
والأمومة: عاطفة أو غريزة رُكزت في فطرة الأُنثى السوية، تدفعها إلى مزيد من الرحمة والشَفقة.
وكلمة غريزة حسب ما ذكرته عالمة النفس “كاثرين مونك” بأنها : شيء فطري وطبيعي يتضمن استجابة سلوكية ثابتة نتيجة محفزات معينة؛ كتقديم الرعاية والحب والحنان والتضحية”.
وقد أولت جميع الأديان الأم حق التكريم وأعطاها الإسلام شرف التفضيل في كثير من الآيات والأحاديث المعروفة، حيث سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: (أمك ) قيل : ثم من ؟ قال: ” أمك” .. قيل ثم من؟ قال [أمك] .. قيل ثم من؟ قال: “”أبوك”رواه البخاري.
وقد قطع الشعراء والأدباء الأفق والفيافي بحثا عن فضلها أيضا ،فقال عنها محمود درويش : (لن أسميك امرأة، سأسميك كل شيء).
فهل بعد مقام الأم مقام وهل بعد حبها حب ؟.
من منا يستطيع أن يفي والديه حقهما، في حياتهما وبعد موتهما. فالأم تبقي كما هي جوهرة مفقودة لأهل العقوق ، وجوهرة مولودة لأهل البر.
يقول عنها “مارسيل بروست” صاحب رواية “البحث عن الزمن المفقود”: كنزي الحقيقي هو أمي”..فلفظة الأم ليست مجرد كلمة تقال وليست مجرد ابتسامة في وجه الأبناء، ولكنها ابتسامة لها مفعول السحر تفعل العجائب وتحيل العالم إلي جنة.
وهي تعبير وجودي سرمدي، إذ يدرك أبناؤها وجودها الرمزي التعبيري من تلك الإبتسامة الرقيقة على غرار قول “فرجيل” : “يعرف الطفل أمه من ابتسامتها”.
ومهما قلنا أو كتبنا فلا نستطيع التعبير عن فضلها علينا، ونحن مدينون لأمهاتنا في عيدها بحياتنا كلها ،فالأم كيان جميل لا يعوض ،ولا يقدّر بثمن ولا يستطيع أيا منا أن يرد ما قد قدمتّه لنا من جميل وحب وحنان وعطاء.
والجنة لأقدامك أمي تتوق، فأنت نور الحياة، ومفتاح الرزق، وسعادة البيت وسعادة الروح، فحنانا من لدنك يضفي علي المكان الدفء والطمأنينة والاكتفاء.
ولا يوجد بعد الأم اكتفاء في الحياة فهي اكتفاء العشق ..اكتفاء الحنان.. اكتفاء الزاد ..اكتفاء الرضا اكتفاء العيش.. اكتفاء الحب.. اكتفاء الدفء.. اكتفاء العطف، فلا تقبل لفظة الأم معها أي شريك لأنها جامعة مانعة، فهى اكتفاء الروح بكل شيء.
يقول عنها الشاعر الكبير أحمد شوقي ” الأمّ مدرسةٌ إذا أعددتها.. أعددت شعباً طيب الأعراق.. ” ولأن الأم مدرسة الحياة.. فالأمثلة كثيرة ومثيرة في هذا الصدد فهي من حملت وربت وعلمت الخلق القويم وتحملت الحياة من أجل أبنائها وضحت بهم وفقدت.
ومن الأمثلة المشهورة للأمهات التي ضحت بأبنائها وقدمتهم للحرب كما في معركة القادسية الأم “الخنساء”، التي لم ترثي أبناءها الأربعة بل قالت برباطة جأش وعزيمة وثقة: “الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وإني أسأل الله أن يجمعني معهم في مستقر رحمته”.
والأمثلة لا تعد ولا تحصي ، ففي فلسطين الشقيقة ضحت الأمهات،ولازالت بأبنائها جميعهم من أجل إستعادة الحق،واسترداد الأرض وإعلاء رفعة الوطن، فأي قلب هذا الذي يتحمل كل ذلك إن لم يكن قلب كبير صبور !.
كل أم هي الوطن الأول الذي نسكنه، نحبه، نفتخر به، ونعيش داخل حناياه، فهي جديرة بالولاء لها والانتماء إليها. ويكون الوطن الذي نعيش عليه والحياة فارغة حين تمر دون “أم” ومؤلمة حد البكاء دون ضحكتها.
ويؤكد ذلك شكسبير حيث قال: “الأم شمعة مقدسة تضيء ليل الحياة بتواضع ورقةٍ.”.
والأم منها يتكون المجتمع كله صغارا وكبارا فهي البناء والإعداد وهي مدرسة الحياة.. منها نبدأ وإليها ننتهي لذلك كرمها الله بالجنة تحت قدميها لتصبح ريحانة الجنة الفواحة بالحب والعطف.
يقول سقراط :” عندما تثق رجلا ، فقد ثقفت فردا واحدا وعندما تثقف امرأة ،فإنما تثقف “أسرة كاملة”، ثقفتها بالأخلاق والمعاملة الطيبة والدفء.
يقول “بلزاك: ” قلب الأم هوة عميقة ستجد المغفرةً دائماً في قاعها.. الأم كيان حي داخل قلب يتسع للجميع”.
وبالرغم مما يقال عن أنها لم تحظ باهتمام الفلاسفة قديما كقضية موضوعية، إلا أن لها دلالة فلسفية جديرة بالمناقشة والحوار.
( فالفلسفة نفسها هي أم المعارف)، فهي أكثر من يعرف عقوق الأبناء، لأن الفلسفة كانت يوماً ما أمَّ للعلوم! وسرعان ما انفصل أبناؤها عنها في ثوب الانشقاق ونكران الجميل بعدما كانت هي الروح التي تحتويهم ، ومن يعرف لوعة انحراف الأبناء غير الأم . فهل بعاطفة فلسفية جديدة أن تعيد الاعتبار للأم في شخصية أمهات الفلاسفة ؟!
وعلي ذلك فإن للفظة ” الأم ” مدلولا لغويا فلسفياً ينتمي إلى مستوى آخر من التعبير ليس هو الكلام الاعتيادي، أو مجرد لفظة منطوقة، وإنما أشبه بنص كوني وجودي فهي تعبير لغوي: ” حياة وفنا وعلما” : فالأمومة أشبه بالحياة الأبدية، التي يتطلع إليها الإنسان في صورة الجنة التي ينعم فيها بكل الملذات.
وكل شيء في الطبيعة يرمز إلى الأمومة ويتكلم عنها كالشمس التي تضيء الكون، والماء الذي يحيى الأرض وغيرها من الأمثلة. كما أن كلمة الأم تصبح مشوشة إذا أُضيفت إليها كلمات أو عبارات سواها. لأنَّ مدلول الأم دوماً خارج المقارنة، بعيدة عن التماثل.
فأمي.. هى أعظم لفظ وأجمل مناداة وهى الطريق إلى الجنة. أنها رمز ” المعلمة” التي تضحي بصحتها وسعادتها من أجل أبنائها تسهر الليالي علي راحتهم وقت الأزمات والامتحانات. كما أنها “الفن والتفنن” كرمز للعطف والحنو علي أبنائها، ومحاولة إرضائهم علي حساب نفسها.
وهي “علم الأخلاق والتربية الإيجابية” القويمة التي تبذل قصاري جهدها ليكون أبناؤها أفضل خلقا وأرفع مكانة بين الناس .
ولا ننسي دور الأب في حياة أبنائه أيضا، فالأب سند في الحياة، وهو من يزرع فيهم الطموح الذي يدفعهم نحو مستقبل ناجح. والأم ترتبط بالمستقبل لأنها ترعى أبنائها لما هو قادم. إذ تضعهم على طريق الأمل في الغد. فهي النور والشمعة المقدسة التي تضيء عتمة الحياة بتواضع ورقةٍ كما قال عنها شكسبير: ” الأم شمعة مقدسة تضيء ليل الحياة بتواضع ورقةٍ…”.
وما أمي إلا قمراً أنار لي كل حياتي أما التسعة أشهر التيَ سكنتُها فِي جوفِها لا يردُ جميِلها يومًا واحِد، لكِ الدنيا بأكملها وأنتِ كُل الأعيادِ. رحمات ربي عليك يا أمي وجميع الأمهات.