النص الذى يمكن أن نصفه بالعروبي، هو النص الذى يجد فيه المتلقي – بصرف النظر عن القطر الذي ينتمي إليه – مشكلاته، ومشكلات الجماعة في آن. البعد الإنساني هو الذي يهب النص ديمومته، والمحلية – دومًا – هي المنطلق لتحقيق البعد الإنساني. الإبداع الذي يتسمى باسم قارة، أو قومية، أو عرق، هو – في تعدد نماذجه – يصدر عن جماعات لها تراثها وموروثها وواقعها وتطلعاتها المشتركة، وهو ما ينطبق على قراءاتنا لأدب أمريكا اللاتينية، والأدب الهندي، والأدب الصيني، والأدب الأوروبي، إلخ.
قسمات التآمر يسهل التعرف إليها على خريطة الاستعمار الغربى، المعاصر والحديث، بداية من الحملة الفرنسية، التي كانت تستهدف قيام دولة شرقية تمتد من مصر إلى القسطنطينية، اتسع حلم نابليون باتساع المساحة الجغرافية للوطن العربي، وهو ما أدركه محمد علي في تحركاته العسكرية إلى أبواب الأستانة.
وكانت الغزوات الاستعمارية لأقطار المشرق والمغرب العربيين، حوالي منتصف القرن التاسع عشر، بداية فرض خريطة سياسية تابعة لكل من إنجلترا وفرنسا، وعقب زوال الاحتلال العسكرى في أعقاب الحرب العالمية الثانية، نشأت ظاهرة الاستعمار الجديد بزعامة الولايات المتحدة، وكان أخطر معالم هذه الظاهرة إنشاء دولة صهيونية في قلب الوطن العربي، تبنت دعاوى أسطورية، لتعمل على قضم ما تستطيع ابتلاعه من الوطن العربي بمساندة غربية، وبدعم أمريكي لا يرفض تصنيف الكيان الصهيوني بأنه إحدى الولايات الأمريكية.
مشكلة الجزر الإماراتية الثلاث طنب الصغرى، طنب الكبرى، أبو موسى، أنها تركت مهملة، خالية من السكان، ثم جاء من يملأ الفراغ.. هذه المشكلة تكررت – ولا تزال – في أقاليم أخرى بالوطن العربي، مثل سينا المصرية التي لو تم تعميرها، أو تعمير مناطق واسعة منها قبل هزيمة 1967، فإن العدو الإسرائيلي كان سيتردد قبل أن يقدم على غزو مدن مزدحمة بالبشر والبنايات، وهناك الجولان السورية التي كانت خالية تمامًا من أية قوة دفاعية، فتقدم الإسرائيليون فيها – على حد تعبير الروائية الكويتية فاطمة يوسف العلي – كما يتقدم السكين فى قطعة الزبد.
تسأل فلوة عن طنجة: لماذا تركها المغاربة للأسبان؟
تجيب ادبيرج: “هكذا نشأنا فوجدنا كل شيء على حاله: طنجة في يد الإسبان، كما أن جزر الخليج في يد إيران، والجولان عند إسرائيل، والشيشان عند الروس”، ويلخص مزهر مأساة المواطن الفلسطيني بأنه في كل مكان، وليس له مكان”.
***
تبين ” ثرثرة بلا ضفاف” عن نظرة السائح في إطالة التأمل لفسيفساء المشهد، الفنانة تحدق في العموميات، تستدعي ما تعرفه، تطرح المقارنة بما اجتذب انتباهها، لا تفلت التفاصيل التي ربما يعبرها المقيم لاعتياده رؤيتها، صارت أجزاء من عالمه الشخصي، مثل أثاث البيت.
كان سالم قد تنقل بين الكثير من مدن العالم، قبل أن يستقر به المقام في باريس، سماها مختصر العالم وقلب الكون.
وكما تومئ الرواية، فإن التدفق العربي على مدن الغرب أحالها مدنًا عربية، المثل لندن التي صارت عربية بعامة، وخليجية بخاصة. أنت تلتقي السحن العربية والدشداشة والبشت والعقال والنعال في زحام الملامح والأزياء الأوروبية.
نظرة السائح الذي يتعرف – للمرة الأولى – إلى المكان، تختلف عن نظرة ابن المكان. إنه يطيل التأمل، يحدق، يستدعي مواقف عاشها من قبل في مكانه الخاص، في وطنه. يلحظ ما قد تعبره الأعين التي ألفت المشاهدة، مثل أبناء القرى، لا تتجه نظراتهم ناحية القطار في انطلاقه على القضبان الموازية للطريق الزراعي.
كذلك فإنه من الطبيعى أن تختلف نظرة المواطن، ابن المكان، عن نظرة الوافد الطارئ، السائح، في محاولة تعرفها إلى ما يلفت الانتباه. ومع أن نجيب محفوظ يفيض مصرية، فإنه يسهل على القارئ الذي أتيح له العيش في الإسكندرية أن يدرك النظرة المغايرة. وكما أشرت في كتابي ” نجيب محفوظ – صداقة جيلين” فقد لجأ الفنان إلى تعبيرات تعرض لظاهر المكان، دون أن تتعمق فى داخل الحياة السكندرية، تكتفي بما يطمئن إليه زائر المدينة من قسمات وملامح، ربما لا يفطن إليها المقيم.
الرواية تتحدث عن الزوج سالم والزوجة فلوة، يقضيان إجازة في باريس، يعودان بعدها إلى الوطن، حيث ينتظرهما الأبناء. حين تلوح بينهما بوادر شجار، فإنهما يتذكران عودتهما القريبة إلى الوطن، من أجل مدارس الأبناء.
أول ما يطالعنا في الرواية مهرجان الألوان الذي ” يلعب على كل مستويات النظر، لافتات محال الحلوى الكثيرة كثرة ملفتة في هذا الشارع الضيق، تحول شهوة الطعام إلى صور الكيكات، وقطع البسكويت يسيل على سطحها العسل، في الأدوار المتكررة لافتات إرشادية لمكاتب وموتيلات، وفوق العمارات القديمة الفارهة، المطرزة بأكاليل القرن الماضي، والذي قبله، لوحات ضخمة لزجاجة يتدفق سائلها في كأس يعلوها الحباب، فلا الزجاجة تكف عن التدفق، ولا الكأس تفيض. كان رذاذ صيفي يصنع – في كل الجوانب – ستارًا من الدانتلا والخرز الملون حسب تداخل الأضواء. السيارات القليلة المارة في الشارع تعمل مساحاتها بجد لإزالة الرذاذ، لكنه يبرقش خلفية السيارة تاركًا للمسّاحات حدود مداها”.
أما المعلم السياحي” المولان روج”، الذي تدور الأحداث في داخله، فإن أشد ما يستوقف الكاتبة، تعبيرًا عن رؤى شخصيات الرواية. التكوينات التي قد تجاوز من ألف العيش في المكان الباريسى، تحاول تسجيلها بنظرة الزائر: ” أنفاس من الدفء، وموجات من العطور تجتاح المكان، يجسد هذا الإحساس بنعومة المخمل في كل شيء: الأرض مخمل قرمزي، تتخلله نجوم مخملية من ألوان ممتزجة كإشعاع السائلين، يكتمل الجو المخملي بالجلوس في الأركان شبه المظلمة التي تتيح للجالسين فيها بأن يتابعوا فقرات البرنامج – إذا شاءوا – وأن يمارسوا من الأقوال والأفعال بمنتهى الحرية إذا أرادوا”.
***
تصف القاصة السعودية فوزية البكر نفسها، وكل المبدعات السعوديات، وربما المرأة السعودية بعامة، بأنها ” المرأة التي لا تملك من اتساع عالمها، غير أن تقف في الخفاء على أصابع قدمها، لتنظر إلى العالم من خلال فتحات النافذة الصغيرة”.
كان زوج نورا يدعوها عصفورتي، وصغيرتي، وهو ما كان يدعو به الزوج في رواية فاطمة يوسف العلي زوجته الجميلة، اعتبرها تحفة خزفية جميلة، ينبغي ألا تخدش، وألا يدعوها لاستكمال رأسها الصغير في مشكلات لا يحتملها، فقد خلقت – في رأيه – للتدليل والرعاية والحنان. الزوجة – على نحو ما – متاع يكمل به الزوج مظاهر جاهه وحياته الاجتماعية المرهقة.
أذكر قول زوربا في رواية كازنتزاكس الشهيرة: المرأة مثل زهرية من البورسلين، تتطلب منك عناية فائقة في التعامل معها”.
ولعل أصعب ما تشعر به المرأة الجميلة حين يعاملها الزوج كقطعة أثاث غالية، أو تحفة ثمينة. المرأة – على حد تعبير غادة السمان – ترفض أن تكون موظفة عند زوجها، سكرتيرة بيتية، إن لها عالمها، عملها وعذاباتها وأفكارها، الزوج جزء من حياتها، ليس محور تلك الحياة، وليس نهاية كذلك لحياة المرأة.
الرجل – في النظرة الذكورية – متبوع، والمرأة تابعة، الرجل هو السيد المسيطر، والمرأة هي الخاضعة التي تنفذ – دون سؤال – ما يمليه عليها الرجل. ولعلى أذكرك بما فعله أحمد عبد الجواد فى رواية نجيب محفوظ ” بين القصرين” عندما أبدت أمينة – زوجته – ملاحظة حول تأخره عن البيت ليلًا، أمسك بأذنها، ونصحها ألا تكرر هذه الملاحظة، ولا تسأل عن أحواله خارج البيت، فهو الرجل، الذكر، السيد، الذي لا يناقش فى تصرفاته.
اللافت أن المرأة لها مكانة متميزة في الموروث الشعبى: فاطمة بنت مظلوم في سيرة ذات الهمة، عبلة في سيرة عنترة، الجازية في السيرة الهلالية، سعدى وعزيزة بين الزناتية، رحمة في قصة أيوب، فاطمة بنت برى في سيرة السيد البدوى، إلخ..
وفي تاريخنا المعاصر، فإن أول إنسان حصل على جائزة نوبل في العلوم أكثر من مرة، كان امرأة هي مدام كوري.
وبالإضافة إلى ثورات العلم والتكنولوجيا والاتصالات والهندسة الوراثية والمعلومات، فإن تملك المرأة لجسدها هو ثورة مهمة بكل المقاييس. قد تكون المرأة أنثى بيولوجيًا ، لكنها – والرأي لنوال السعداوى – ذكر من النواحي العقلية والنفسية والسياسية.
ثمة إشارة ذكية من عبد الرحمن الأبنودى عن مربعات الجنوب، أي التى وضعها شعراء من الصعيد، هي خلوها من أي انتقاد للمرأة، لأنها – في تقدير الأبنودى – تتقاسم – مع رجلها – المعاناة وقسوة الأحوال.
قوامة الرجل تعني المسئولية، والأعباء التي يجب أن يتحملها لصالح أسرته، ولا تعنى التمايز، أو الأفضلية لصالح الرجل. المرأة ليست وجودًا هامشيًا، ولا هي ناقصة عقل ودين. إنها كائن بشرى، إنسان، قد تختلف – كأنثى – عن الرجل، الذكر، في بعض الخصائص الفسيولوجية والبيولوجية، لكنها تكتمل بخصائصها. أذكر ما كتبه رفاعة الطهطاوى ( 1873) “فإذا أمعن العاقل النظر الدقيق في هيئة الرجل والمرأة في أي وجه من الوجوه، فى أي نسبة من النسب، لم يجد إلا فرقًا يسيرًا، يظهر في الذكورة والأنوثة وما يتعلق بهما، فالذكورة والأنوثة هما موضع التباين والتضاد”. بل إن الرجل والمرأة يتساويان في الوقوع داخل أسر القهر والظلم. وعلى حد تعبير ابن رشد: فإن استعباد المرأة طويلًا أدى إلى البؤس الذي يلتهم مدننا بسبب كثرة النساء العاجزات.
***
كان مزهر السماحي فى الخامسة والعشرين، أنفق آلاف الدنانير والدولارات والفرنكات على شرائح الصحيفة الإلكترونية التي أصدرها في بلده، وعقد اتفاقات مع المؤسسات العلمية والفنية في الولايات المتحدة وفرنسا، وتجهيز مكان عصري مزود بأجهزة الاتصالات الحديثة. كان واثقًا من نجاح الصحيفة، بعد أن حصل على موافقة الكثير من مديري المدارس والجامعات والمعاهد العليا ورؤساء المؤسسات للاشتراك في صحيفته. ولا يخلو من دلالة عنوان ” السيديهات” التي كانت تطبعها مجلة السماحي الإلكترونية، فهي” سيدي المستقبل”.
وعلى الرغم من العائد المرتفع للأعداد الأولى من الأسطوانات، فإن التوزيع مالبث أن تراجع بما قارب الصحيفة من الإفلاس، واكتشف السماحى أنه يواجه حربًا من حكومة بلده، فطار إلى باريس. لم يكن يمتلك ما يعينه على استكمال مشروعه الصحفي الإلكتروني، فتنقل بين العديد من الوظائف الصغيرة التي أعانته على تدبير الوجبات التالية، وكان أقسى اللحظات في نفسه حين اضطر لدفع مبلغ صغير لقاء طبق كوشير يهودي، باعتبار أن الطعام النباتي أرخص من الطعام الحيواني.
أحب مزهر السماحي باريس، مدينة الثقافة والسهر والأضواء، لكنه لم ينس الممارسات الاستعمارية للحكم الفرنسي في بلاده، غادرها بعد أن استنزف – على مدى عقود – ثرواتها البشرية والاقتصادية، مئات الألوف من الشهداء والمعتقلين، وما يصعب تقديره من الطاقات والثروات، بالإضافة إلى أخطر الجرائم، وهي قسمة الشعب ذي الوطنية الواحدة إلى عربي وإفريقي.
تؤكد ادبيرج – الأمازيغية – عروبتها ” أنا عربية، ربيت على لغة العرب، وثقافة العرب، وتاريخ الإسلام هو تاريخ العرب”.
الخلاف بين العرب والأمازيغ، أو الأمازيغية مقابلًا للعروبة – وهو ما عرضت له ادبيرج – ليس المشكلة الواحدة التي يعانيها الوطن العربي. ثمة مشكلات أخرى، ذات أبعاد قومية وعرقية ودينية: العرب والأمازيغ والأكراد والسنة والشيعة والموارنة والأقباط والنوبة والبروتستانت والكاثوليك، وغيرها من الطوائف التي تشكل المشهد العربي.
المؤامرات التي تستهدف التقسيم والتفتيت هي الأبعاد الحالية لسياسة الغرب، لا تدبر في البيت الأبيض ولا البنتاجون ولا وزارة الخارجية الأمريكية، بقدر ما يتشارك في وضع مخططاتها كل من السي آى ايه في واشنطن والموساد في تل أبيب.
تفصيلات الفعل التآمري هي الصراع بين المسلمين والمسيحيين، وبين السنة والشيعة، والعرب والأكراد، والعرب والأمازيغ، وغيرها من التقسيمات التي تسعى لأن تنزع عن الوطن العربي وحدة التاريخ والواقع والمصير، وتحيله إلى دويلات تتنازع فيما بينها، ويرقص أبناء كل قطر على نيران الخلافات التي يشعلها التآمر الغربي.
حتى تنتهي الفوضى المدمرة التي يسعى الغرب من خلالها إلى استلاب مقومات الوطن العربي، وتحويله إلى التبعية الخاضعة، فإن المسئولية على القيادات الحاكمة، وعلى القدرات المثقفة، الفكرية والعلمية، التي تتيقن من نظرة الغرب إلى المنطقة، كوحدة قومية ومكانية، والعمل – في الوقت نفسه – على تفتيت هذه الوحدة إلى كيانات هزيلة، يسهل إخضاعها أو ابتلاعها، واستيلاء الكيان الصهيونى علي فلسطين هو أكل للثور الأبيض، قبل أن تؤكل بقية الثيران.
***
المشهد الروائي يشمل الكثير من مدن الوطن العربى، حتى المدن التى استولى عليها الاستعمار، كأنه يهبنا خارطة للواقع العربى بكل ما اجتازه، وما يحاول اجتيازه، من قضم أراض، وأزمات قاسية.
الحوارات – أو الثرثرات – ممتدة في أسطر الرواية، لم تقتصر على قضية محددة، لكنها شرقت وغربت، طرحت ما ينبثق في الخاطر، وجهات النظر، ووجهات النظر المقابلة، ومضى الحوار – أحيانًا – إلى آفاق مغايرة.
عاب سالم على القيادات العربية تغنيها بالقدرة على صنع كل شيء، من الإبرة حتى الصاروخ، ثم صار مستقبل الوطن العربي وراءه، وتهيأ – التعبير له – لانتظار المسيخ الدجال. واستعادت فلوة أمام سالم قوله: إن العرب خارج تطلعات العصر. أدان سالم الأوضاع العربية المتهرئة: زحام، صراخ، إعلام، صحف [ يقصد بالطبع إعلامًا مدانًا، وصحفًا تعكس المعنى نفسه ]، سجون، بضائع فاسدة، تجارة محرمة، مجالس نميمة، نميمة على النميمة، كل شيء حتى بيع الأطفال وشراء اللذة. وثمة تعبيرات محملة بالإدانة ضد العرب، مثل القول إن أمة العرب هي ” أمة الخرافات والعنتريات والعشق والآهات”، و” العرب ظاهرة صوتية”، و” ينتمون إلى وطن ضخم وضعيف وطويل ومنبعج”، أي أنه متناقض الصفات. وثمة المواطن العربي الذي قد يحملونه إلى الرفيق الركن – الشخصية واضحة! – مكتوفًا، أو في كيس، أو صندوق.
ولأن السماحى يعيش في باريس بالسخط على الوطن العربي، فقد كانت كفة السلبيات راجحة في نظرته إلى المجتمعات التي ابتعد عنها، لخص مأساة التخلف العربي في الفقر، هو سبب الجدرى الذي يعانيه أخوه، لكن الفقر له أسبابه التي تكمن في الشخصية العربية، ما يصدر عن فكرها وتصرفاتها من سلبيات، مثل غياب الديمقراطية، وتقييد الحريات، وزيادة الإنجاب. والجنس هو متعة العربي الوحيدة، من خلال نظرة تتخطى الحلال والحرام، والمباح والمحظور، بل وقواعد الأدب واللياقة. العربي – إن ثارت شهوته – أباح لنفسه كل شيء. الرجل يوجه اتهامه إلى الشخصية العربية، إلى تكوينها النفسي والفسيولوجي.
ظني أن هذه النظرة لم تصدر عن شخص سالم، بل هي تصور يوافق نظرة الغرب بعامة إلى الإنسان العربي. لعلي أذكّر بوزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كيسنجر، حين أسرف في الحديث عن النساء في لقائه السياسى الأول بعبد الحليم خدام، نائب رئيس الجمهورية العربية السورية الأسبق، قدم إلى دمشق بتصور أن الجنس هو الحوار الأهم في المجتمعات العربية. مع ذلك، فإن سالم كان أميل إلى الانحراف السلوكي، منذ شبابه الباكر. وحين صار له مشروعه الفني، لم يشعر مطلقًا – والقول للفنانة – أن رسالته القومية على تنافر، أو ضد استمتاعه بالحياة.
المؤامرات معلنة، ولكي نتغلب عليها، فلابد من التيقن بالمصير المشترك، والعمل لصالح الأمة العربية، وإزالة الخلافات الداخلية، والعربية العربية، المفتعلة، ومواجهة الـتآمر بإرادة موحدة، وهو ما قد يصعب تحقيقه دون تفعيل أداء الجامعة العربية، والهيئات التابعة لها.
أما المشكلة التي دفعت أدبيرج للفرار من بيت زوجها إلى بيت أبيها، فهي ادعاء الزوج بين أهله أنها لا تنجب، بينما كانت قد ظلت على عذريتها خلال سنتين من الزواج. صبرت بوعده أن تدرس في باريس، لكن الوعد بقي عند حد الكلمات. لم يحاول الزوج أن يلحق بها لتوضيح موقفه، هو أعرف الناس بالمشكلة القاسية.
تلقفت أدبيرج حكم القاضي، وسافرت إلى باريس لتحيا محنة إنسانية، بأمل الدراسة فيها. تقول ادبيرج في نفسها: ” النزوح قدر مكتوب على خارطة بلادنا من المحيط إلى الخليج كما يقولون، ليس عندنا استثناء، حتى أهل النوبة نزحوا بسبب السد العالي”.
نشأت بين السماحى وأدبيرج – في العاصمة الفرنسية – علاقة صداقة، وكان يقدمها إلى أصدقائه باسمها المجرد دون أن يشير إن كانت خطيبة، أم زوجة، أم أنها علاقة تكتفي بالصداقة، لذلك فقد أزمعت فلوة أن تتعامل مع ادبيرج والسماحي باعتبارهما زوجين.
وفي يوم عقد قران زواج مزهر السماحي وأدبيرج بنت مضياف، شهد على العقد سالم وصديقه ضاري سهلى [ كان بلا وطن ينتسب إليه ]، وقال القنصل – بعد أن اطلع على جوازات سفر الشهود -: ” هذا عرس قومي حقيقي، فيه تمثيل كامل من المشرق إلى المغرب”.
***
لعله مما يحسب لفنية الرواية، ذلك المزج الذي تخلل أحداثها، بين ملامح الطبيعة، والملامح الشخصية، بالإضافة إلى توزع الأدوار والآراء بقدرة فنية عالية. تختلف الأقوال، لكنها تصدر عن أصوات تشي – في مجموعها – بوجهة النظر الكلية، المحملة بالإدانة والرثاء للواقع الذى يقتصر التصدى لمشكلاته على ثرثرات، بدأت، وغاب أفق انتهائها.