كتب رجا شحادة المواطن الفلسطيني المسيحي، لديفيد جروسمن مؤلف كتاب” الزمن الأصفر”: يخيل لي أن المستقبل البعيد يحمل فى ثناياه خطرًا لإسرائيل أكثر منه لنا. لا يمكن أن ننكر حالة العالم العربي. إنه عالم يصعب جدًا العيش فيه، عالم قمع. لكن إسرائيل قائمة على تناقضات هائلة وطاقات متناقضة، تجعل وجودها محفوفًا بمخاطر كبيرة. مثلًا، هناك فرق كبير بين تصور الإسرائيليين لأنفسهم وبين الواقع. إنكم تعتقدون أنكم قادرون على كل شيء جرَّاء مقدرتكم على التحكم بنجاح، بهذا العدد الكبير من السكان. لكن الواقع يدل على أنكم تعتمدون بشكل كلي على الأجانب. إنكم تذكرونني بالابن المدلل للرجل الغني الذي يعتقد أنه قادر على كل شئ، إلى أن يجد نفسه مضطرًا لمجابهة الحياة وحيدًا، ليكتشف عددًا من الحقائق المحزنة”.
انطلاقًا من هذه الكلمات، فإن القراءة المتأملة لما بعد السابع من أكتوبر، تبين عن حقيقة العلاقة بين إسرائيل ودول الغرب – الولايات المتحدة بخاصة – أنها ليست مجرد دولة صديقة، وحليفة، لكنها اختراع الغرب، خلاصًا من شيلوك!
تدين إسرائيل للعديد من العوامل التى أسهمت فى قيامها. أهم تلك العوامل مساندة الولايات المتجدة وأوروبا، والإرهاب الذى تشكل له العديد من المنظمات الإرهابية الصهيونية، بل إن معظم القيادات الإسرائيلية كانوا – لفترات فى حياتهم – أعضاء فى تلك المنظمات الإرهابية، ومنها شتيرن والهاجاناه.
بعد أن تحولت إسرائيل إلى دولة عضو فى المنظمات الدولية، فإن الإرهاب ظل بعدًا مهمًا في سياستها، وهو ما يتضح في قياسات الرأي العام العالمي، حيث أكدت أن إسرائيل هي الدولة الإرهابية الأولى في العالم.
القوة التي لا تقهر هي الخديعة التي نسبتها إسرئيل إلى جيشها في الداخل، وتعددت عملياتها الإرهابية في الخارج، وضربت طائراتها أهدافًا في مدن عربية.
كان المتوقع في ثورات الربيع العربى أن تمثل رادعًا لقادة إسرائيل، بحيث تختفى – أو تقل – ظاهرة حرب الإفناء، تحسبًا لردود الأفعال.. لكن انشغال ثورة الربيع بأوضاع الداخل، وغلبة الفوضى على الكثير من الأقطار العربية، مثّل دافعًا لنهازي الفرص في الكيان الصهيونى حتى يسرعوا في عمليات الهدم والمحو والتبديل لفرض واقع جديد في أرض فلسطين، وأهمه المقدسات الإسلامية والمسيحية فى القدس.
السياسة فن الممكن، لكن الأهداف الصهيونية ترفض هذه المقولة، وتحاول أن تتجاوزها، فهي تصر على النقاء الدينى. لا أقول العرقي، فالأجناس متعددة. ولعلي أنصحك بقراءة العبقري المصري جمال حمدان” اليهود أنثربولوجيًا”.
حين يظهر وزير السياحة الإسرائيلى في صورة تليفزيونية، وقبة الصخرة تتهاوى من خلفه، تعبيرًا عن إزالة المسجد الأقصى وملحقاتها، فإن تهمة الإرهاب تطرح نفسها بشدة، تشير إلى ثبات العقلية الصهيونية على جعل الإرهاب بعدًا ثابتًا في سياستها الداخلية بالنسبة لعرب فلسطين، بل ضد الأقليات الوافدة مثل الفلاشا وغيرها.
الصورة التى وقف فيها الوزير الإسرائيلى شاهدًا على تصور انهيار قبة الصخرة، بداية تنفيذ مخطط لإخفاء مسجد قبة الصخرة خلف بناء من أربعة طوابق، يضم مركزًا للشرطة، ومتحفًا، وصالات استقبال.
والحق أن الإقصاء والإلغاء والمحو للديانات السماوية الأخرى، لا يقتصر على مخططات تقويض الأقصى، فقد حولت إسرائيل العديد من الكنائس والمساجد والمزارات الإسلامية والمسيحية إلى غير أهدافها.
أذكر كلمات موشى ديان إلى دول الغرب عن انتفاضة العالم الإسلامى – فى أواخر الستينيات – ضد محاولة إحراق الأقصى، بأن المسلمين يهبون، ثم يهدءون.
هل يكون هذا هو الموقف من مسئول إسرائيلى يتحدث – بالصور الشارحة – عن هدم الأقصى، لتقام – فى موضعه – منشئات إسرائيلية؟!
إن كل ما نسبه قادة الكيان الصهيوني للمقاومة شاهد العالم نقيضه عبر شاشات التليفزيون في مذابح الجيش الإسرائيلي ومجازره التي صارت مشهدًا يتكرر – مرات عديدة – في اليوم الواحد.
أذكرك – على سبيل المثال – بالمصور الصحفي الذي أصر جنود الاحتلال أن ينزف وحيدًا. منعوا رجال الإسعاف من إنقاذه حتى غادر الحياة.
أذكرك أيضًا بالسلاح الذي وزعه الوزير بن جافير على المستوطنين في مدن ما قبل 1948، ومدن الضفة الغربية. كميات هائلة من السلاح، استخدمت في نشر الإرهاب ضد الفلسطينيين.
مع ذلك، فإن الإرهاب هو الصفة التى تحاول إسرائيل إلصاقها بمنظمات المقاومة الفلسطينية.
النظرة المتأملة تدرك أن كل ما شهدته فلسطين المحتلة – فلسطين كلها، للأسف، محتلة – وفق مخطط استراتيجي، يواجه التنبه لتكتيكاته بدعوات لضبط النفس، فيهدأ كل شيء.
التصور الذي استقر في أذهان ساسة الغرب أن الدولة المحتلة وجدت لتبقى، حتى لو أقدمت على ممارسات تتجاوز الحد الإنساني. فإذا انتفض الفلسطينيون عاد الهدوء بدعوات ضبط النفس، وأفلح الكيان الصهيوني وفق ذلك السيناريو أن يجعل من اتفاقية أوسلو بلا قيمة، ويجعل السلطة الفلسطينية مجرد بناية في رام الله، يقيم فيها أبو مازن بلا سلطة حقيقية، ويقضم الكيان المزيد من الأرض الفلسطينية، فلا يمتلك الفلسطينيون من أرضهم إلّا 18%.
تصور قادة الغرب في أحداث السابع من أكتوبر تكرارًا لما شهدته مدن فلسطينية في العقود الماضية، بحيث يطلبون التهدئة وضبط النفس، وتظل الممارسات الإسرائيلية، سعيًا لمحو الهوية الفلسطينية تمامًا، ثم مواصلة القضم لتحقيق حلم إسرائيل من النيل إلى الفرات، وهو الشعار الذي تحمله الخرائط الإسرائيلية!
مضت أشهر على تحرك المقاومة ضد الوجود الاحتلالي الصهيوني، توضحت خلالها حقائق كثيرة، أهمها زيف الدعاوى الإسرائيلية عن ممارسات المقاومة. إن صراع الوجود يخوضه الشعب الفلسطيني في غزة، وفي الضفة الغربية، دفاعًا عن أرضه، حريته، وجوده. أما استعانة إسرائيل بمرتزقة من الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا والمكسيك لمحاربة الفلسطينيين فذلك أبعد ما يكون عن تسمية صراع الوجود. إنه صراع بين أصحاب الأرض ومن يستولي عليها، ويدعو المرتزقة لمشاركته الوجود الاحتلالي.
في ظل حالة الاستنفار القصوى، زار رؤساء الغرب إسرائيل. أظهروا تأييدهم، وقال الرئيس الأمريكي بايدن إنه لو لم تكن إسرائيل لخلقها، وقال وزير الخارجية بلينكن في لهجة متأثرة، إنه قدم إلى فلسطين المحتلة يهوديًا قتل جده في مذابح النازي!
صمود المقاومة تماهى مع اعتراف الرئيس الأمريكي بالمشاركة في الحرب ضد المقاومة الفلسطينية، وهو ما لم يقتصر على تزويد الجيش الإسرائيلي بالسلاح، ولا بالقبة الحديدية، ولا بالمعونات المالية الهائلة.( آخر دعم لتزويد واشنطن إسرائيل بالسلاح قيمته 26 مليار دولار! ). وإنما بالمشاركة في التخطيط داخل غرف العمليات، واعتبار الحرب في غزة – وفلسطين بعامة – شأنًا أمريكيًا.
تبدلت الصورة الثابتة، المتكررة، فأدرك الغرب خطورة الأحداث على استشرافات المستقبل، وأن الوجود اليهودي في فلسطين المحتلة على المحك، وهو ما أثير للمرة الأولى على لسان بايدن، ثم في خطبة لوزير الحرب الإسرائيلي جالنت.