محمد جبريل
المثل يتحدث عن الألف ميل التي تبدأ بخطوة واحدة.
في رأيي أن بداية المناصرة المعلنة للقضية الفلسطينية – في الولايات المتحدة – قطعت الكثير من الخطوات بما يصعب التهوين منه، أو تغافله.
المفردات كثيرة: انتحار ضابط في سلاح الطيران الأمريكي، احتجاجًا على صمت مسئولي بلاده عن المجازر الصهيونية.. استقالات كبار المسئولين في المؤسسات السيادية.. إضرابات طلاب الجامعات في الولايات الأمريكية.. المظاهرات الحاشدة التي شملت غالبية المدن، لم تقتصر مسيراتها على الشوارع الرئيسة، بل حرصت أن تطيل الوقوف أمام البيت الأبيض ومبنى البنتاجون ووزارة الخارجية وبيوت كبار المسئولين.. وواجه المحتجون – في ملتقيات سياسية – الرئيس الأمريكي، ووزير خارجيته، رفعوا الشعارات المنددة بالموقف الأمريكي، وهتفوا لفلسطين.
منظمة إيباك الصهيونية أنفقت مبالغ هائلة لإفشال الحملة الانتخابية لجمال بومان المرشح الديمقراطي من أصل إفريقي. وإذا كان الرجل قد أخفق في الحصول على أغلبية الأصوات، فإن مواقفه تستحق الإشادة والتأييد. هذا ما أعلنه السيناتور الأمريكي برني ساندرز، مدافعًا عن حق شعب فلسطين في دولته المستقلة، وداعيًا إلى توقف حكومة بلاده عن التواطؤ في كارثة غزة الإنسانية، وزاد ساندرز فاتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بإهانة الشعب الأمريكي في قوله إن أي احتجاج ضد إسرائيل هو معاد للسامية.
نطرح السؤال: ألم يكن دعم هذا المرشح جزءًا أصيلًا في أنشطة الجامعة العربية، وفي السفارات العربية التي التزمت صمتًا غير حكيم؟
لا إشارة، ولا تعليق حول المجازر الصهيونية في غزة والضفة الغربية. إنما اكتفت جميعها بترديد ما بثته المصادر الصهيونية والغربية، بالإضافة طبعًا – وإن بدرجة أقل – إلى بيانات فصائل المقاومة، تصورًا غريبًا بالحيدة بين الضحية والجلاد.
ولعلي أدعوك إلى متابعة النشرات الإخبارية في العديد من القنوات الفضائية التي تنسب إلى أقطار في الوطن العربي.
في موازاة ذلك كله، يبين المجتمع الدولي عن مواقف إيجابية ضد الصلف الصهيوني، ومنها إدانة جوتيريش أمين الأمم المتحدة للممارسات الصهيونية في غزة والضفة الغربية، وتأكيده على أن قرارات محكمة العدل الدولية ملزمة لكل الأطراف، وأهمها إدانة التصرفات الإسرائيلية في غزة، ودعوتها إلى إيقاف القتال، ورفع الحصار، وفتح المعابر لإدخال المساعدات، واعتبار المحكمة الجنائية الدولية نتنياهو ووزير حربه جالنت مسئولين عن جرائم حرب، وخروج المظاهرات في مدن العالم، حتى في عواصم الغرب: واشنطن ولندن وباريس وبرلين وغيرها، تندد بالمذابح الإسرائيلية، وتناصر حق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة.
ولا يخلو من دلالة دعوة وزيرة خارجية بلجيكا – باسم بلادها – إلى ضرورة تطبيق قرارات محكمة العدل الدولية.
المسيرة – كما تعلم – طويلة، أفقها يتمثل – في أقل تقدير – في إنهاء مهزلة تزويد إسرائيل بالأسلحة الشديدة الدمار، تقتل، وتمحو البشر والبنى التحتية والمساحات السكنية ومصادر العيش. بينما المقابل زيادة المساعدات الإنسانية لمئات الألوف من الفلسطينيين الذين يتباهى قادة الاحتلال بإجادة حصارهم، ويرفضون حقهم في استعادة الحياة داخل وطن مستقل.
عندما طالبت بقيام لوبي عربي في الولايات المتحدة، توقعت نظرة الدهشة، أو الإشفاق: ماذا تصنع الأقلية العربية؟
أعود إلى مثل الألف خطوة. الخطوة التالية سترافقها خطوات من المتعاطفين مع القضية الفلسطينية من الجاليات الإسلامية والرافضين للسطوة الإعلامية الصهيونية من ذوي الأصول الإفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية على الإعلام الأمريكي، ومواقع صنع القرار.
أذكرك بأن هذه التطورات – كما أشرت سابقًا – تشكل انفراجة في الباب الذي نستطيع فتحه عن آخره من خلال وجود فاعل في مراكز صنع القرار الأمريكي.
السياسة هي فن الممكن، وما نتحدث عنه ليس مستحيلًا. فقط لو أن العرب فطنوا إلى الطريق الصحيحة، وما فيها من مؤشرات نحو الغاية المطلوبة.
إذا كان اللوبي الصهيوني قد أفلح في زرع الوهم داخل العقلية السياسية الأمريكية، بأنه العنصر الأشد تأثيرً في الصندوق الانتخابي، فإني أذكرك بفوز أيزنهاور بالرئاسة، في تجاوز لضغط اللوبي الصهيوني، كما أذكرك بأخطر الأسئلة التي واجهت الساسة الأمريكان أيام توالي هزائم القوات الإسرائيلية في حرب 1973: إذا انهار البناء الذي شاركنا في تشييده، ودعمه، فما معنى – في ضوء المصلحة الوطنية – مواصلة الحرب دفاعًا عن حليف منهزم؟
أكرر الحديث عن الألف ميل التى تبدأ بخطوة واحدة، وعن التعريف الذي يرى في السياسة فن الممكن.
أعاود الإشارة كذلك إلى فيلم أمريكي شاهدته مذ سنوات بعيدة، محوره المرشحان التقليدبان للجمهوريين والديمقراطيين، لجأ كل منهما إلى أحط الوسائل استهدافًا لتشويه الآخر، وأتاح التشوه الذي ألحقه كل منهما بخصمه، أن يصعد مرشح ثالث، لم يتسخ ضميره ولا ممارساته بالكيفية التي بلغها المرشحان الآخران.