بقلم : عبده البغدادي
قدمت المخرجة السورية نور غانم، عرضها المسرحي ” نساء بلا غد” عن مسرحية للكاتب العراقي الكبير “جواد الأسدي”، جسدت عن طريقه معاناة المرأة في ظل الأحداث السياسية المعاصرة، ومشكلة الحرب السورية، ومعاناة اللاجئين، والصراع النفسي بين الأمل واليأس، والرغبة في الحياة ومحاولة الهروب من الذكريات، والحنين للبيت والعائلة والهوايات، والخوف من المجهول والمستقبل وحالة الضياع والتيه الذي يعيشها اللاجئون بين أشياء تمنوها وواقع مرير فرضته قسوة الحرب والصراعات السياسية عليهم.
علي خشبة مسرح الهناجر بدار الأوبرا استطاعت المخرجة نور غانم وببساطة ممتنعة، ورؤية عميقة أن تجسد مشكلة اللاجئات السوريات، عن طريق ثلاث شخصيات بثلاث قصص، كل قصة منها تلمس روحك وتحتضن مشاعرك وتُجري دموع عينيك، وتحرك داخل رأسك سؤالاً واحداً عن ما يعانيه اللاجئين، بأي ذنب يحدث لهم هذا؟
تدور الأحداث بين الشخصيات الثلاثة، وربما في حقيقتها بين تيارات ثلاثة:
– تيار ديني يجسد شخصية المرأة المتدينة متمثلة في (مريم) التي منذ الصغر تحفظ القران وتصلي، دائمة الذكر والتسبيح، تجد نفسها بعد اللجوء في علاقة تبحث فيها عن مشاعر الحب والاهتمام والتخلص من الوحدة، لكنها تبقي في صراع وانفصام بين ماضيها الديني ومستقبلها الذي لا تعرف له تسمية ولا تود الاعتراف به.
وتكشف لنا الأحداث عن ذاك الاضطراب في الشخصية، لنكتشف انها تعرضت للاغتصاب أكثر من مرة أثناء الصراعات الداخلية في سوريا، علي يد العناصر الإرهابية.
لعبت الفنانة بسمة ماهر الدور ببراعة وتمكن و ساعدتها ملامح وجهها البريئة مع الملابس الأكثر إحتشاما وتسريحة الشعر المختنقة عكس زميلاتها، مما يعكس دقة المخرجة في التركيز علي التفاصيل وخروج الشخصيات بهذا الصدق والاحساس .
– تيار علماني او لنقل أكثر انفتاحاً (أديل) يحاول التأقلم والعيش والهروب من الماضي ونسيانه، عبرت عنه بطلة المسرحية نهلة الرملي بطريقة مدهشة وبتعبيرات ونظرات عيون صادقة امتزجت مع ملابسها وتسريحة شعرها المتحررة التي تعبر عن رغبتها في حب الحياة ورغبتها في أن تصبح فنانة، وانها كما قالت: (لن تدفن نفسها بالحياة )، ولكننا مع اقتراب الأحداث من النهاية نفاجأ بمعاناة تلك الشخصية، ومقدار الوجع والحزن الذي تخفيه بداخلها.
دور معقد للغاية اجادته نهلة الرملي ببراعة وقوة واستطاعت ان تجعلنا نبكي دون أن نشعر، وأن تختنق الأحاسيس بداخلنا فنود لو صرخنا معها علي خشبة المسرح.
-التيار الثالث الذي يشبهنا كثيراً
المثقفون او التيار الذي أحب أنه أصفه بأنه ( العالق في المنتصف) ذاك التيار الذي يتأرجح بين الأمل و اليأس والخوف من المستقبل ، بين التدين والعبادة، والفن والرقص، بين الجنون والعقل.
جاء هذا التيار متجسداً في فاطمة الفنانة المعروفة الطموحة قبل ان تقع أحداث الحرب لتفقدها شغفها بعدما اعتقلتها الأجهزة الأمنية وعذبتها، وتجد نفسها خلال الاقامة في الملجأ بين مريم المتدينة والمضطربة في وقت واحد، وبين أديل المنفتحة التي في ظاهرها لا تبالي بشيء، فتحاول أن تكون هي صوت العقل بينهما.
ولا أجد كلاماً أصف به الفنانة الرائعة لونا أبو درهمين وهي تجسد هذا الدور؛ إنها تُلقي النص بروحها وتتحسس خشبة المسرح بأنفاسها، وتعيش الشخصية بعيونها، تنفعل وتهدأ وتهمس وتسكت فتحس بمعاناة الشخصية فتتألم لحالها وتفرح لضحكها وتفكر لحيرتها، وتنصت لأنفاسها.
استطاعت المخرجة الرائعة نور غانم ان تصنع عرضاً مسرحياً غاية في الجمال والإحساس والعمق، بطريقة بسيطة خالية من التعقيد وبلغة فصحي ممتزجة بشيء من العامية، وبثلاث ممثلات اقل ما يقال أنهن رائعات .
“نساء بلا غد” ليس مجرد عرض مسرحي يروي معاناة اللاجئين السوريين وحسب، ولكنه كذلك يحكي مشكلة ومعاناة الإنسان بشكل عام، الذي يجد نفسه في غمضة عين بلا أهل وبلا وطن وبلا مسكن او أصدقاء، في ثواني يجد نفسه يبحث عن نفسه وروحه ومشاعره وغدهُ ومستقبلهُ.
واعتقد أنه لا يوجد كلمات تصف هذا العرض المسرحي مثل ما كتبه الكاتب المسرحي والناقد والمخرج الكبير “السيد حافظ” من أنه عرض جميل وناعم وقاسٍ كذلك.