المعادلة واضحة، لا تحتاج إلى تدقيق، وتدبر، ومغالبة التلغيز: نبتة غريبة في أرض ترفضها، وعد من لا يملك لمن لا يستحق. من لا يملك هو الغرب الذي استباح الوطن العربي منذ أواسط القرن التاسع عشر، فتت أقطاره، واصطنع كيانًا فصل بين مشرقه ومغربه. أما من صدر لهم الوعد فقد توسلوا بدعاوى الدين لتحقيق حلم دولتهم الكبرى.
أن يسكت المواطن في أي قطر عربي عن الممارسات البشعة للكيان المحتل، استهدافًا لاحتلال كل الأرض الفلسطينية، فذلك ما يذكرنا بحكاية الثيران التي كان يجب أن تعي مصيرها عندما ذبح أحدها، فإن عليه أن يتبين موضعه في الدعاوى الأسطورية عن الوطن الذي يشمل العديد من الأقطار العربية، والبروتوكولات والمخططات المخفية التي تشير إلى كل الوطن العربي.
أذكرك – على سبيل المثال – بقول بن جوريون في الأيام الأولى لقيام دولة إسرائيل، إن حدودها حيث يصل الجندي الإسرائيلي، وتأكيد الوزير الحالي سيموتريتش أن الصورة المستقبلية لبلده تشمل لبنان وسوريا وأجزاء من مصر والعراق والسعودية!. كما أذكرك بالكلمات التي ينشدها الطلاب الإسرائيليون في المهرجانات: لنهر الأردن ضفتان.. االضفة الأولى لنا.. والضفة الثانية لنا!. وقد شاهدت – شخصيًا في الفنوات الفضائية – مستوطنين إسرائيليين، يتحدثون عن أقطار عربية بأنها اجزاء من وطنهم الذي سيعودون إليه. وربما أضفت عبارات منسوبة إلى التوراة، تبيح نفي الآخر والعدوان والاغتيال والإفناء والمحو.
الغريب أن نتنياهو يعد أبناء فلسطين ولبنان – في توالي تصريحاته – بالمستقبل الباسم. فهم يتأملون الأوضاع بنظرة مرتاعة، يفتقدون الشهداء من الأسرة والأقارب وأبناء الوطن، يعانون الجوع والعطش ونقص الدواء وانعدام الرعاية على أي نحو، يألمون للبنايات التي تحولت إلى كومات من الحجارة والتراب.
لعل نتنياهو فطن إلى أن توجيه مسيرة نحو بيته في قيساريا رد فعل للجرائم الوحشية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد المواطنين الفلسطينيين، والتي صدرت – كما أعلن في تصريحاته – بأوامر شخصية منه.
كلمات محملة بالمعنى نفسه، وبحجم الأكاذيب نفسها، تحدث بها نتنياهو عن المستقبل الوردي للمنطقة بمشاركة بعض أقطارها، في أعقاب جرائم اغتيالات قادة المقاومة.
ورغم ادعاء وزيرة خارجية ألمانيا أن الحرب الحالية بين الجيش الإسرائيلي وحركات المقاومة أحدثتها عملية طوفان الأقصى، فإني أشير إلى التقارير الإعلامية الصهيونية بأن قادة الكيان كانوا يدبرون للجرائم الحالية في غزة والضفة الغربية قبل عام من عملية طوفان الأقصى. أعدت الخطط، وانتظرت البادرة التي تتيح لها بدء التنفيذ.
والحق أن مخططات رئيس الوزراء الإسرائيلي لا تقتصر على حربه ضد حماس وحزب الله وحركات المقاومة عمومًا، بل إنها تتجاوز الغضب العربي، بتصور ابتلاع كل فلسطين، بداية لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى.
أضيف أن الأمر يتجاوز – للأسف – اغتيال قادة المقاومة، وقتل عشرات الألوف من المواطنين المسالمين، وتحويل غزة – على مدى سنوات طويلة – إلى سجن تصعب الحياة فيه، وحرب الإفناء منذ اليوم الأول لانفجار المقاومة ضد الجرائم الصهيونية، ليس ضد أبناء القطاع فحسب، وإنما ضد مواطني الضفة الغربية، بل إن التأثيرات السلبية امتدت إلى فلسطينيي ما قبل 1948.
الأمر ليس في ذلك كله، وإنما في المشروع الصهيوني الذي استعاد حكاية الذئب والحمل، لا لمجرد القضاء على المقاومة، ولا ابتلاع كل فلسطين، وإنما لتحقيق الحلم الاستيطاني الصهيوني بدولة مساحتها الوطن العربي.
أخطر ما في المأساة – هي مأساة بكل المقاييس – أن العدو أفلح في تحريض أبناء الديانة الواحدة ضد بعضهم البعض. وعلى الرغم من تماهي المقاومة السنية ممثلة في حماس، والمقاومة الشيعية ممثل في حزب الله، دفاعًا عن الأرض العربية ضد العدو المشترك، فإن البعض من المحسوبين على العرب يسلمون عقولهم إلى ما يستحيل تصوره.
أضيف فأذكر – نقلًا عن متحدثين صهاينة، ووسائل إعلام إسرائيلية – أن الشهيد يحيى السنوار لم يكن ضد السلام، ولا جعل من الأسرى الإسرائيليين دروعًا يحتمي بها طيلة إقامته المستمرة في أحد الأنفاق – زعم لنتنياهو ومساعديه!- ، بل إنه خاض – بمفرده، ولست ساعات – آخر معاركه في بيت يبعد عن معسكر لجنود العدو بألف قدم.
وكان رائعًا ومؤثرًا هذا التسجيل الذي أعلن فيه السنوار أن الاغتيال هو الهدية التي ينتظرها في نضاله ليلحق بمن سبقوه من الشهداء.
بالإضافة إلى ذلك، فقد أشرف السنوار بنفسه على صياغة وجهة نظر المقاومة التي قبلت – حرصًا على دماء شعبها – صفقة الوسطاء، بينما حاول نتنياهو – كما حرص منذ البداية – على تعويق المسار التفاوضي، بشروط تعجيزية، فلا يصل إلى حل، حتى تتواصل الحرب، وإذا كان الرئيس الأمريكي قد تناسى إدانته لنتنياهو بأنه هو الذي يعيق إتمام الصفقة، فإن مراجعة تصريحات بايدن في وسائل الإعلام العالمية ربما تذكر الرئيس الأمريكي بما تناساه!
لو أن المثقفين العرب – باختلاف أيديولوجياتهم – أعادوا النظر إلى الأوضاع في المنطقة، فإن الصورة المحددة، الواضحة، هي النبتة الغريبة في أرض ترفضها. وإذا كان الكيان الصهيوني – بمساندة معلنة من زعامات الغرب، والولايات المتحدة بخاصة – قد جعل لنفسه موضعًا كدولة ضمن دول المنطقة، فإن الشعوب ترفضه، ترفض المؤامرات ومحاولات استبدال الهوية والقتل والتدمير والإفناء وكل ما رشح إسرائيل لتحصل على تسمية الأمم المتحدة بأنها الدولة الإرهابية الأولى في العالم.
إن العدو يغوي العالم برسم صورة المستقبل الذي يريده كهيمنة استيطانية، تشمل أقطار الوطن العربي، وعلينا – كعرب – تجاوز التصور الكاذب إلى أفعال إيجابية تنتصر لإرادة المقاومة على قوى الشر الحقيقية.