أظنك توافقني على أن تاريخنا العربي هو تاريخ الحكام، السلاطين والملوك والأمراء والوزراء، أما الشعب الذي يحكمونه فإنه على الهامش، أشبه بجموع الكومبارس في الأفلام التاريخية، يسهمون في تجسيد المشهد بحيث تظل الشخصيات الرئيسة داخله، تتنامى علاقات الحب والكراهية والعداء والتآمر والكيد والدس والإعداد للحرب، وخوض الحرب بالفعل، تظل في قلب المشهد، تصنع الأحداث، لا تغادر المتن، بينما الجماهير العادية هي الهامش، لا مشاركة حقيقية لها إلا كما يشارك كومبارس أفلام السينما في صنع الجموع الضبابية الملامح.
الملاحظ أن عادة المؤرخين القدامي هي قصر المشهد على الحكام وما يجري داخل القصور، وقد امتدت – للأسف – إلى العديد من الإبداعات المعاصرة، والحديثة، أذكرك – على سبيل المثال – بفارس بني حمدان لعلى الجارم، وروايات حرجي زيدان التي وظفت التاريخ، وروايات محمد فريد أبو حديد ومحمد سعيد العريان. لكننا نلمح استثناء رائعا في ” السائرون نيامًا” لسعد مكاوي، و” الزيني بركات” لجمال الغيطاني، و” البشموري” لسلوى بكر، و” تغريبة بني حتحوت” لمجيد طوبيا. وأشير – بتواضع – إلى رواياتي من أوراق أبي الطيب المتنبي، قلعة الأبطال، ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، الجودرية، وغيرها،
إذا تجاوزنا هذه الروايات الاستثناء، فإن معظم مادة الروائيين لمؤرخين قصروا كتاباتهم على تاريخ الحكام، في توالي العصور، حتى العصور التي ربما ابتعد بها المؤرخ – زمنيًا – عن الملاحقة والمساءلة، قد يجد الخير في اتباع من سلف، وهو ما يسهل تبينه في الكثير من كتب التاريخ.
أوافق الجزائري الطاهر وطار على أن الفرق بين المؤرخ والروائي هو أن المؤرخ يعتمد على المادة التي يحصل عليها – وهي مادة – كما تعلم – في قصور الحكام وبيوت السراة ورجال السلطة – قد يضيف إليها وجهة النظر الخاصة، بينما الروائي يضيف إلى المادة الروائية ما تمليه المخيلة والتصورات، بصرف النظر عن التحامها بالواقع.
في رأي أستاذنا سعيد عبد الفتاح عاشور أن الواقعة مقدسة والرأي حر، بمعنى أن الكاتب المبدع له أن يوظف التاريخ في كتاباته، وأن يعرض للآراء بالقبول أو الرفض، لكن تبديل الواقعة التاريخية، أو الشخصية التاريخية، خطأ ينبغي تجنبه.
بالنسبة لي، فقد وظفت التاريخ في العديد من كتاباتي. رغم حرصي على الأطر العامة للوقائع التاريخية، فقد واجهت ما أنسبه إلى حسن الظن، أوالتعنت غير المقبول في التعامل مع النص الأدبي.
عندما بدأت هيئة الكتاب في طباعة روايتي” من أوراق أبي الطيب المتنبي، رفض مسئول النشر الشاعر كيلاني حسن سند أن يدفع بالرواية إلى المطبعة، ما لم أكتب إقرارًا بأن يوميات المتنبي – قوام الرواية – إنما هي من خيال المؤلف. كتبت الإقرار باعتزاز، فقد كانت الوقائع التي نسبتها الرواية إلى المتنبي، والشخصيات التي التقاها، من خيال المؤلف. اخترعت تصورًا للسنوات التي قضاها المتنبي في مصر، زمن كافور الإخشيدي، طلبًا لإمارة في الصعيد، أو إمارة صيدا في الشام. أضفت من الشخصيات والأحداث ما يشكل رواية، لا تسجل التاريخ، بل توظفه.
وحين صدرت روايتي” ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله” أفرد صديقي الكاتب العربي فيصل دراج مساحة في جريدة” الشرق الأوسط” السعودية، عاب فيها سطوي على كتابات لمؤرخين، ضمنتها روايتي، فأنا لم أبذل جهدًا.
التقيت فيصل دراج في مؤتمر للرواية بالشارقة. سألته:
– هل قرأت أراء هؤلاء المؤرخين في مؤلفاتهم؟
لم أنتظر إجابة، فروايات مؤرخي الرواية كلها، ومعظم الشخصيات والأحداث، وليدة خيال الكاتب.
مع أن صمت فيصل دراج عن الرد شيء يخصّه، وأنه ربما لم يقرأ الرواية، وإن وجد في العنوان ما يزكّي فهمه، بالإضافة إلى أنه وازن بين روايتي ورواية سالم بن حميش، الكاتب التونسي الذي أعتز بإبداعه، فانتصر لروايته. ألف من دماغه، بينما اكتفي مؤلف روايتي بنقل روايات المؤرخين.
مع ذلك، فإن صمت فيصل دراج ظل قائمًا، حتى الآن.
لا أطالبه بالاعتذار، فقد يكون الاعتذار صعبا لمن تحققت مكانتهم. فقط تمنيت أن يراجع فيصل ما كتب، ويلوم من أوعزوا له بالقراءة الخاطئة.
في روايتي” النفي إلى الوطن” فقرات مطولة منسوبة إلى الزعيم الشعبي عمر مكرم. بعث لي الصديق الأكاديمي اللبناني عبد المجيد زراقط دراسة مطولة عن روايتي، أرفقها بالسؤال: هل هي مذكرات عمر مكرم بالفعل؟ وأين وجدتها؟
هاتفت عبد المجيد زراقط. أوضحت له أن عمر مكرم لم يخلف حرفًا واحدًا يمكن أن يوصف بالمذكرات.
أعاد زراقط قراءة الرواية، وراجع – كما أبلغني – مؤلفات أرخت لعمر مكرم، ثم نشر دراسته النقدية بفهم أن مذكرات الزعيم الشعبي من خيال المؤلف.