فى حياتى الكثير مما يعلمه شخص واحد، هو صاحب هذه الحياة. لا أحد خارج ذاتى يعرف ما أخفيه عن الآخرين، لأنها حياتي، تجاربي الخاصة، ظروف قاسية أرجع مجاوزتي لها إلى العناية الإلهية، وإلى المصادفة .
المصادفة لا لحظة محددة لها. تكتسب معناها ودلالتها من أنها تأتي بلا موعد، أقرب إلى المفاجأة، أو أنها مفاجئة. هي لا تتنبأ، ولا تتوقع، ولا تنتظر. المصادفة في حياتي لها تأثيرها الذي يصعب إنكاره. غيّرت، وحذفت، وأضافت، وبدّلت المسار. جعلت ما كان – أحيانًا – كأنه لم يكن، وأحالت السراب حقيقة لافتة .
المثل يقول: قيراط حظ ولا فدان شطارة. الشطارة هنا قد تعني الذكاء، يمتلك المرء ذكاء خارقًا، يعينه على الأداء، لكن الحظ يتخلى عنه، أو لا يواتيه، فلا يتحقق شيء مما يحاول ذكاؤه أن يصنعه.
ثمة – فى المقابل – من يعانون افتقاد الذكاء، لكنهم يحظون برعاية الحظ، فهو يحرص – دون دعوة – على مناصرتهم.
قال صديقي فى نبرة المتحسر: لا فائدة!.
يقصد أفق المأساة التي يعانيها شعبنا العربي.
قلت: أنت تحيا وتتكلم وتبدي رأيك، وأنا أفعل الشيء نفسه. هناك إذن أمل، اللافائدة تعني اليأس،النهاية، الموت، العدم، وهو ما لم نبلغه بعد، فلماذا لا ننفض عن أنفسنا عوامل اليأس؟ لماذا لا نحاول التخلص من أسباب التخلف والتبعية وغيرها من السلبيات؟
بيت الشعر العربي يتحدث عن الأزمة التي قد تضيق تمامًا ، لكنها ما تلبث أن تنفرج. ذلك ما عشته فى العديد من المواقف، الأزمات، بلغت بي حافة اليأس. لم يعد إلا النهاية السخيفة، ثم حدثت الانفراجة التي لم أتوقعها. توقعي – في المواقف القاسية – أن الأمل هناك، في نهاية الأفق.
أزعم أن للإرادة دورها الذى أقدره لها، وأشكرها عليه، لأني عزفت عن السير في طريق خاطئة، كانت ممهدة وسهلة، وأفقها يشي بمغريات جميلة. أقنعتني إرادتي – ولعلى أقنعتها – أن الطريق الأخرى أفضل، رغم المشقة.
لا أذكر القائل: التجربة خير طريق للتعلم. رسب أينشتاين في امتحان دخول الجامعة، ولم يعترف النقاد بعبقرية بيكاسو إلا في مرحلته التكعيبية، ويروي سعيد السحار في ذكرياته عن الشيخ محمد عبد الوهاب ( موسيقار الأجيال فيما بعد ) وهو يسير – مرتديًا القبقاب – في شوارع باب الشعرية. وطالب متعهد الحفلات الحاج صديق مطرب جيلنا عبد الحليم حافظ أن ينزل من خشبة المسرح، واستبدل به المطرب كارم محمود، رحمة بجمهور الإسكندرية من أغنيته الحزينة: ظالم وكمان رايح تشكى. ذكّرت الأغنية متعهد الحفلات بأغنية عبد الوهاب ” أيها الراقدون تحت التراب “، وتعالى التصفيق والهتافات والراقصة الشقراء هيرمين تتأود، وكارم محمود يغني: سمرة يا سمرة، وعانى أستاذنا نجيب محفوظ اتهامات النقاد، وتجاهلهم، وافتراءاتهم على أعمال فترة مرحلة الواقعية الطبيعية: خان الخليلي، القاهرة الجديدة، زقاق المدق، السراب، بداية ونهاية – كم طالت أحاديثه وهو يستعيد تلك الفترة القاسية من حياته الإبداعية! – اتهموه بإهمال الطبقة ما دون الوسطى والفقيرة، والاحتفاء بطبقة االبورجوازية. تناسوا شخصيات مهمة في تلك الروايات، مثل زيطة وشحاذيه وعباس الحلو الذي دفعته ظروفه المادية إلى العمل في معسكرات الإنجليز بالقناة، ثم دفع حياته ثمنًا للوجود الاحتلالي، عقب عودته إلى القاهرة.
اللافت أن هؤلاء المتجاهلين، المفترين، السفسطائيين، هم أحرص نقاد محفوظ – فيما بعد – على مناقشة إبداعه، وإبراز جمالياته، وتأكيد مكانته – التي لا تحتاج إلى تأكيد – سيدًا للرواية العربية.