✍
رؤية- د.خالد محسن:
يواصل الأديب الإسماعيلاوي الشاب أحمد رفاعي آدم فيض إبداعاته من خلال قصته (في نادي الشجرة) التي نعرضها في هذه السطور، حيث يتجول بحروفه ومفرداته في أعماق المجتمع، باحثا عن قيم الخير والجمال والحب، محاولا في سياحته الأدبية رصد ملامح الواقع المر، وما أسماه “بعض الثقافات المرفوضة، وصور التفاوت الطبقي”، من خلال رمزية الإشارات والدلالات.
“آدم” قد صدرت له مؤخرا مجموعة قصصية (مغترب مع سبق الاصرار) كما انتهي من سطور روايته الأولي..(الحرزاوية)، ويبشر إنتاجه وقلمه -وفقا لرؤى العديد من الأدباء والمثقفين-بكاتب واعد وأديب متميز يسعي لترك بصمة في دنيا الأدب وعالم الثقافة.
🌴 قصة قصيرة 🌴
✍ في نادي الشجرة
……………………….
كنتُ أطالعُ كتابي في ركني المفضل حين مرقوا من أمامي.
ليس من عادتي أن أتبعَ فضولي ولستُ من النوع الذي يخرجُ من دنيا كتابه بسهولةٍ ولكنَّ النصيبَ غلّاب. كان أولُ ما لفتَ انتباهي رائحةُ الطعامِ الذي يحملون. رائحةٌ ذكيةٌ يسيل لها اللعاب. تجاوزوني بسرعة وانحرفوا يميناً جهة ممرِ أشجار الفيكس المنتشرة في الأرجاء واختفوا عن ناظري خلفَ مبنى الإدارة الذي يتوسطُ قلب نادي الشجرة عِشقي منذ طفولتي ومكتبتي الخضراء الواسعة التي لا تحدها سوى السماء.
لم يدخلْ معدتي الكبيرة نسبياً طعامٌ منذ الغداء ورُغماً عني سال ريقي وقرقَرتْ معدتي وبدأَتْ تفرزُ عصارتها الهاضمة. بعدَ وهلةِ تفكيرٍ دسستُ الكتابَ في حقيبتي ونهضت. تبعتهم عبر ممر الأشجار الباسقة وانعطفتُ يميناً خلف المبنى. كنتُ أحفظُ النادي شبراً شبراً عن ظهرِ قلبٍ وكنتُ أعرفُ ما تُفضي إليه هذه الطريق. مساحةٌ خضراءٌ مسطحةٌ يتوسطها مسرحٌ صغيرٌ على النسق الروماني يحده جهة اليمين سورٌ حديديٌ عالٍ تتخللٌه الزروعُ والنباتاتُ والحشائشُ الكثّة ويصطفُ أمامه نخيلٌ مثمرٌ وأشجارٌ متنوعة الشكل والحجم مقصوصةٌ باعتناءٍ منقطعِ النظير، وخارج ذلك السور العالي يمتدُ شريط السكة الحديد.
سلكتُ طريقاً مختصراً أوصلني إلى مكانهم تقريباً في نفس اللحظة. ورأيتهم بوضوحٍ أكثر هذه المرة. كانوا ثلاث فتيات وشابان وبدوا أنهم من عائلةٍ واحدة. تحلقوا حول منضدة ذات مظلةٍ خشبيةٍ سداسية الشكل ولها حوافٌ مزخرفةٌ تتدلى منها فوانيس تبقت من آثار شهر رمضان الذي رحلَ منذ أيام.
جلسَ خمستُهم وبدأوا يفرشون الوليمة. أخرجوا العُلبَ الكرتونية من أكياسها وشرَعَتْ الفتياتُ تخرجن الأطعمة وترصّنّها فوق المنضدة. شرائحٌ عريضةٌ تعلوها طبقاتٌ مثيرة. قطعُ الدجاج المتبل جيداً والمعمول على طريقة الشاورما السوري. أصابعُ الكفتة المرصوصة بعنايةٍ فوق طبق الفلين العريض مفترشةً أعواد الخضرة من الشبَتْ والبقدونس. علب الطحينة ذات القوامِ المتماسكِ سهل الانسياب. زجاجات الكاتشب والمايونيز والمسطردة. وزجاجات الماء والمشروبات الغازية الباردة التي وضعت على منضدة صغيرة مجاورة. يا لها من وليمة!
زكمتني الرائحةُ المنبعثةُ من بؤرتهم بسرعة الصاروخ. وكردِ فعلٍ منعكسٍ خارج عن إرادتي بدأتُ أمصمصُ شفتيَّ وأحركُ كفَّ يدي اليسرى على بطني علَّ قرقرتها تهدأ. وبسرعة دسستُ يدي اليمنى في جيبِ سترتي وأخرجتُ هاتفي النقال وكان من النوعِ الحديث ذي الامكانيات الفائقة. صوّبتُ كاميرته جهةَ علب الكرتون الفارغة وقربتُ “الزووم” والتقطتُ صورةً -كانت الحمد لله واضحة- لاسم المطعم ورقم التليفون. وبروحٍ ظفرت للتو بمنتهى مبتغاها وبأناملٍ حساسة من فَرَطِ الجوعِ ضغطتُ الأزرارَ وطلبتُ رقمَ المطعم.
بعدَ محاولةٍ وثانيةٍ وثالثةٍ أتاني صوتٌ أنثويٌ رقيقٌ يسأل عن طلبي. طلبتُ “الأوردر” ورجوت الفتاةَ التي بدت طيبةَ القلبِ أن تعطف علي وتوصي بعدم تأخير الطعام. ووعدتني بذلك بعدما أكدَتْ حسن حظي لوجودي في نادي الشجرة القريب من أحد فروعهم. أنهيتُ المكالمة وجلستُ على مَبعَدةٍ من الشبابِ الذين بدأوا بالفعلِ يتناوبون – وفي صمتٍ مثيرٍ – على شرائح البيتزا ذات القوامِ المطاطِ وأصابعِ الكفتةِ وقطع الدجاج بعد تغريقها في علَبِ الطحينة والكاتشب وأخواتهما.
ولأرحم نفسي من عذاب الجوع تشاغلتُ عنهم بكتابي.
وفجأةً أتاني زعيقُ أحدِهم وقد هبَّ واقفاً، وبوجهٍ عابسٍ كان ينهرها. دققت النظر فرأيتها بوضوح. كانت هزيلةً ساكنةً على مقربة من المأدبة. تنظرُ بعينين زائغتين تخفيان مُرَّ الشكوى. ودّت لو تتكلم فتحكي عن جوعها المؤلم الذي دفع بها وصغارها ليلتفوا حول الطاعمين. رأيتُ في وجهها الشابُ حالها البائس في غفلةِ الحياة، أيام عمرها الزاحفة في ممر الأوجاع، رأيتُ جوع اليوم وهموم الغد. ألا ما أضعف تلك المسكينة ويا لسذاجة هؤلاء الحمقى إذ لم يشعروا بها ولا بما رُزأت به!
ظلت تتوسلُ في صمتٍ وهي تدور بصغارها حول المائدة ولكن دون جدوى. نهروها بلا رحمة وبلغ الأمرُ بأحدهم أن هددها بالضرب، ورغم ذلك لم تبرح مكانها. لم أتحمل فنهضت، وتوجهت إليهم بسرعة، ثم بغيظٍ مكتومٍ قلت:
– هلاَّ رحمتموها وصغارها وأعطيتم لها قليلاً من كثيركم؟!
أجابني أحد الشابين متبجحاً:
– وما شأنك؟ إن كنت كريماً بحق خذها واشتري لها ما تريد!
وقال الآخر متهكماً:
– إياك أن تصدق هذه العيون الماكرة. أُقسم أنهم يأكلون كل يومٍ أكثر مما نأكلُ نحن!
وكأن هذا الاتهام كسرَ نفسَها فلمحتُها تطأطئ رأسها وتستدير عائدةً إلى حائط المسرح وصغارها الجوعى في أثرها وقد يئسوا النجاة. وخفق قلبي فَرَقْاً لهم فلم أشعرُ بنفسي إلا وأنا أجذب طبق الكفتة من أمامهم وأركض كالمجنون. تبعني الشابان ذاهلين من صنيعي وضربني أحدهما برِجلِه في كاحلي فتعثرتُ وسقطتُ على وجهي، وجذب الآخرُ الطبقَ من يدي المتشبثة وناولني لكمةً قويةً أسالت الدم من أنفي الأفطس. وفزِعَتْ المسكينةُ لمنظري ففرت بأطفالها خلف الحائط خشيةَ أن ينالهم من هؤلاء القساة مثل ما نالني. وعذرتُ لها خوفها.
أعتدلتُ وجلستُ على الأرض وإذا بيدٍ تربتُ على كتفي الأيمن. كانت إحدى الفتيات قد رقّت لحالي ولم تكن مثل رفقائها. قدمتْ لي قطعتَيَّ كفتة وهي تقول:
– لا تحزن. حقك علي! خذ هاتين القطعتين والحق بها.
شكرتُ لها صنيعها وحمدت الله في نفسي أن جعل منهم مَنْ لم تختفي الرحمة من حياتها. وقبل أن أمدَّ يدي رن هاتفي لأجد عامل المطعم يبلغني بوصول الطلب. وتذكرت أنني طلبتُ طعاماً منذ قليلٍ فشكرتها وقمت وأنا أردد مسروراً:
– يا فرج الله. يا فرج الله.
وبسرعة ركضت جهة مدخل النادي وفي لمح البصر عدتُ أحمل الطعامَ وتوجهت إلى حائط المسرح الروماني حيث اختفت المسكينة وصغارها. وهناك في تلك البقعة المنعزلة وجدتهم نائمين كأنهم ارتضوا أن يبيتوا الليلة بلا عشاء. كانت الأم مستلقيةً تلملم صغارها بشتى جسدها علّها تمنحهم الدفء بعدما فَشِلتْ أن تمنحهم فرصة ليطعموا كباقي مخلوقات الله. وحين رأتني نهضت وتهللت وجلستُ على الحشائش الخضراء أمامهم وفرشتُ الطعام بدون تكلف وهمست:
– تفضلوا.. لقمةٌ على ما قُسم.
وبلا تردد التفوا حولي ومواؤهم لا يتوقف كأنهم يشكرونني وذيولهم لا تكف عن الحركة كأنهم في رقصةٍ ساحرة.
غادرتُ النادي بأنفٍ متورمٍ وقلبٍ شاكرٍ لله. وبالقرب من بوابة النادي قابلتني مكتبة عم إدوارد وأخبرني أن العدد الجديد من مجلة الأزهر قد وصل. تناولتُ نسختي ونقدته ثمنها.. ركبتُ سيارتي المتواضعة وبلهفة فضضت الكيس الذي يغلف المجلة ولكم كانت فرحتي حين عثرتُ على كتابين هديةً مع العدد. كان أحدهما بعنوان “فقه معاملة الحيوان في الإسلام” والآخر بعنوان “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” لكبار هيئة علماء الأزهر.