مشكلتنا كمصريين أو بالأحرى مشكلة أعدائنا أننا نستعصي على الإختراق، لدينا موروث ــ ومخزون ــ ثقافي وحضاري وإنساني وأيضاً ديني يحمينا من الشطط والإنسياق وراء من يحاولات طمس هويتنا “الوسطية” المتسامحة.
من هنا كانت الحملات التي استهدفت أم الدنيا على مر التاريخ تركز على مسألة طمس أو تغيير الهوية لكن كل المحاولات فشلت للسيطرة على عقولنا، مرة بالسياسة وأخرى بالفنون وثالثة باستحداث أدوات مبتكرة مثل وسائل التواصل الإجتماعي وغيرها ورابعة بواسطة الدين.
وضع أكثر من خط أسفل كلمة دين لأنه بات الوسيلة الأسهل والأقل تكلفة والأكثر تأثيراً في هدم الموروثات، بالطبع لا أتحدث عن صحيح الدين الذي جاء ليصحح المفاهيم وينير العقول ويدعو الى التعايش مع الآخر ولكن عن الأفكار المستحدثة التي لاتتسق مع الفهم المستنير للدين الحنيف.
من البديهي والمنطقي وأنت تعيش في مجتمع يضم مسلمين ومسيحيين أن هناك الكثير من المعاملات التي تجمعنا بصورة يومية، ومن قلة الحكمة ألا نتبادل التهاني في المناسبات المختلفة التي تخص الطرفين، مثلما أنه من البديهي والمنطقي أن أتباع كل دين يتمسكون بتعاليم دينهم حتى لو كان بعضها ــ أو كلها ــ تتعارض مع تعاليم الدين الآخر.
ليس مطلوباً منك أن تقتنع أو حتى تفهم دين غيرك ولكنك مطالب باحترام طقوسه ودينه سواء اتفقت أو اختلفت معها.
***
كالعادة وفي مثل هذا التوقيت من كل عام يخرج علينا البعض بفتوى “مكررة” مفادها عدم جواز تهنئة الإخوة المسيحيين بأعيادهم، ولهم منطقهم وحججهم التي لايحيدون عنها رغم تفنيدها أكثر من مرة بواسطة كبار العلماء.
هم يصورون الأمر على أنه يفسد العقيدة أي أنه يؤدي الى الكفر، تصور أنك تخرج من الملة في عرف هؤلاء لمجرد أنك قدمت التهنئة لجارك أو زميلك في العمل، ومن ثم وطبقاً لهذا المنهج يجب منع غير المسلمين من تهنئتنا في أعيادنا أو تناول حلوى المولد.
لي صديق مسيحي يعشق حلاوة المولد وكل عام يذكرني بها ولايذكر عبارة “مولد النبي” إلا ويعقبها بقول “صلى الله عليه وسلم” احتراماً لي ولغيري من المسلمين،وبالمناسبة هؤلاء أنفسهم هم من يفتون بتكفير من يحتفل بالمولد وبنفس النظرة السطحية وإدعاء أن الأمر يرتبط أيضاً بالعقيدة.
ولا أدري لماذا الإصرار على تعقيد الموضوع وتحميله مالايحتمل، فالقصة كلها مجرد إحتفال بنهاية عام وبداية عام جديد ولاعلاقة له من قريب أو بعيد بقضية العقائد للمسلمين أو المسيحيين أو نظرة البعض لما يمثله أو يعنيه هذا العيد طالما أن الطقوس خاصة بمن تختلف معهم أصلاً في الدين ولست ملزماً بفهم أو إتباع أي شيء يخصهم.
الذي يعنينا كمجتمع “محافظ” ألا يتحول الإحتفال الى “رقص السنة” بدلاً من رأس السنة بما يتضمنه من رقص وخلاعة وتعاطي للمنكرات، فهذا هو الحرام الذي يجب أن ندعو الى منعه عن المسلمين والمسيحيين على حد سواء.
***
عندما فتح عمرو بن العاص مصر كان أول تكليف له من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هو طمأنة الرهبان الفارين للصحراء هرباً من بطش الرومان وإعادتهم الى أديرتهم ومنحهم حرية العبادة.. لم يحكم بإعدامهم أو يهدم أديرتهم بحجة أنها تدعو الى تعاليم تخالف الدين الإسلامي أو إجبارهم على إعتناق الإسلام لأن عبادتهم “حرام” رغم أنه بالتأكيد على خلاف ديني وعقائدي معهم.
ومن المفارقات التي ربما لايعلمها الكثيرون أن الإسلام لم ينتشر عقب الفتح الإسلامي لمصر مباشرة بل أن عدد من دخلوا الدين الحنيف خلال العقود أو القرون التالية للفتح كان محدوداً للغاية لأن الفاروق عمر بن الخطاب أعطى الجميع حرية الإعتقاد والعبادة.
ولأمير المؤمنين عمرواقعة شهيرة عندما تسلم مفاتيح بيت المقدس وحان وقت الصلاة وهو في كنيسة القيامة ورفض طلب الرهبان بأن يصلي في الكنيسة وقال عبارته التي لاتنسى “حتى لايأتي يوم ويقول المسلمون هنا صلى عمر”.
أيمن عبد الجواد