في ذكرى ميلاد أستاذنا يحيى حقي ( 7 يناير 1905) فإني أعتز بانتسابي إلى الكثيرين الذين أفادوا من علاقاتهم بالرائد الكبير في تكوينهم الثقافي والإنساني.
أسهم يحيى حقي فى حياتنا الثقافية، بالدور نفسه الذى قام به جيل الرواد، بالإضافة إلى مبدعى المدرسة الحديثة، فهو لم يعرف التخصص، كما فعل نجيب محفوظ والأجيال التالية، لكنه اجتهد فى معظم المجالات الأدبية، وزاد عليها. وكما قال أحمد عباس صالح، فإن يحيى حقى أعد نفسه إعدادًا شاقًا وصبورًا، لكى يكتب بين كتاب جيله من الكبار كتابة متميّزة، وليؤثر تأثيرًاً عميقًا فى قرائه، وفى الأجيال التالية له، فى التذوق، وفى التعبير، وفى التأمل الهادئ العميق.
أذكر – في هذه المناسبة – واقعة غريبة تأثرت فيها – لفترة – علاقة يحيى حقي كأستاذ وأب بشخصي، انعكاسًا لما يرين على حياتنا الثقافية – أحيانًا – من فيروسات ضارة، تحدث فيها ما يجاوز أخطر الأمراض.
ذات عصر، اقتنيت من بائع الصحف في ميدان عبد المنعم رياض نسخة من مجلة “الإذاعة والتليفون.
نسيت – وأنا أقرأ صفحتي الرأي – باعث اقتنائي العدد، وهو البحث عن دراسة للصديق الناقد الراحل أحمد محمد عطية عن كتابي” مصر من يريدها بسوء”. أحدثت الكلمات في نفسي ما يشبه الزلزال” يحيي حقي: محمد جبريل سرق كتبي!”.
لم يكن العنوان مختلفًا عن مضمون الكلمات، فقد اتهمني الرجل الطيب، الدمث الخلق، أني سطوت على كتابات له، ونسبتها إلى نفسي.
أعدت قراءة الكلمات. عرفت أنها من رسالة ليحيى حقي إلى الشاعر عبد الله شرف، عثر عليها الكاتب الصحفي إبراهيم عبد العزيز ضمن الرسائل المتبادلة بين شرف ومجموعة ممتازة من مثقفي مصر والوطن العربي.
كان عبد الله شرف قد جعل من ندوته الأٍسبوعية مضيفة لعشرات الأدباء من مدن مصر وخارجها، فضلًا عن أعداد من الأدباء العرب الذين وجدوا فيها مغايًرة للحياة الثقافية في مصر، وعوض صعوبة لقائه بمن لم تتح له ظروفهم زيارته بالمراسلات الشخصية، تبادل الرسائل مع معظم المشتغلين بالعمل الثقافي، حتى من لم تنشأ بينه وبينهم علاقة صداقة، بادرهم برسائل تعبر عن شفافية محبة، تحفزك إلى صداقتها.
لكنني بعثت – في اليوم نفسه – رسالة إلى عبد الله شرف – مختصرها إنهاء ما بيننا من صداقة.
لم أكن أعرف طبيعة السطو الذي أشار إليه حقي، ولا موقف شرف دفاعًا عن كتابات حقي المنهوبة، لكنني اعتبرت الأمر منتهيًا عند رسالة القطيعة التي أنهيت بها علاقة، تمنيت لو أنها استمرت.
قبل نهاية الأسبوع، استجاب من في البيت لرنين جرس الباب: عبد الله شرف على كرسيه، يحمله شابان من صناديد.
ابتدرني بلهجة مشفقة: هل ستخاصمني في بيتك؟!
كان يحيى حقي قد أعارني أجزاء مذكرات أحمد شفيق باشا لاستكمال بقية أجزاء كتابي “مصر في قصص كتابها المعاصرين “. سافرت في رحلة عمل إلى خارج مصر، طالت أعوامًا، فلم أتمكن من تسجيل قراءتى في كتاب أحمد شفيق باشا، وهو – بالمناسبة – كتاب مهم للغاية. ويبدو أن يحيى حقي أغضبه تأخري في إعادة الكتاب.. فأشار – في رسالة إلى عبد الله السيد شرف إلى أنى ” سرقت ” الكتاب!.. ووسطه في مطالبتي بضرورة إعادته. أضاف إلى تألمي قول حقي أنه لم يبع مكتبته الخاصة، كما نشرت جريدة صباحية، بل إنه تأثر لسطوي على بعض كتبه!
تنبه الجميع: حقى وشرف والأديبة الكبيرة سكينة فؤاد رئيسة تحرير مجلة ” الإذاعة والتليفزيون ” آنذاك، إلى الخطأ الغريب الذى وقع فيه صديقنا إبراهيم عبد العزيز. وجاءنى إبراهيم يعتذر -بفروسية قدرتها- ونشرت المجلة تصويبًا لما كتب، وانتهى الأمر.. من جانبي في الأقل!
أعرف أن كثرة الرسائل بين حقى وشرف ميزت العلاقة بين أديبنا الرائد والكثيرين من أدباء الأجيال التاليةـ وجد حقي في الرسائل تعبيرًا عن تواصله مع الآخرين، حاكى محمد حافظ رجب فى لغته، وفى تشبيهاته المتفردة، وثمة رسائل كانت وسيلته للتواصل مع عبد الله السيد شرف، قاوم عبد الله ظروفه الصحية، وإن ألزمته بيته الريفى فى صناديد، وظلت صداقة حقى وشرف متواصلة عبر الرسائل.
كتب لابنته عن تفصيلات حياته، حتى العادي والمألوف، كلمات مفعمة بالبساطة والصدق، لغة تحدثية أقرب إلى العامية، أو أنها العامية. كيف يقضى يومه منذ لحظة استيقاظه، إلى لحظات التهيؤ للنوم، ماذا يأكل؟ ماذا قرأ؟ بمن التقى؟ هل اجتذبه في الطريق ما دفع لحكايته؟.. أب يحادث ابنته، يلاغيها ويناوشها، يرد على ما تثيره من أسئلة، حتى تلك التي يلفها الحرج، هو يلجأ إلى التشبيه والتورية والكناية وكل ما يقرب المعنى – دون جهارة – إلى ذهنها الصغير.
ظنى أن رسائل يحيى حقي بعد مهم في حياته، وستظل ترجمته ناقصة ما لم تقرأ هذه الرسائل جيدًا، ومحاولة تبين بواعثها، وظروفها، والدلالات التى تشغلها.
كان من المقبول في العشرينيات والثلاثينيات أن يقدم أدباء كبار مثل العقاد والمازني على بيع مكتباتهم الخاصة لمواجهة ضغوط سياسية واجتماعية، والمفروض أن الزمان تغير.
أشفقت على أستاذي الجميل حرصه على إزالة الأثر الذى ربما أحدثه في نفسي ما نسب إليه من كلمات. فقد حرض محرر ” الشرق الأوسط ” اللندنية أن أكتب عنه، عقب فوزه بجائزة الملك فيصل العالمية، وأبلغني الصديق الشاعر أحمد هريدي رغبة حقي في أن أكتب دراسة خصصتها “الشرق الأوسط ” للمناسبة.
قلت لهريدى إنى ربما كتبت ما لا يرضى يحيى حقى.
نقل هريدى اعتذارى، ونقل لى إصرار حقى على أن أكتب المقال، وكتبت الكلمات عن النصيحة التى لم يعمل بها فى كتابه ” ناس فى الظل”. ألاّ يسمع الكاتب صرير قلمه. أشرت –إلى المباشرة فى قصة ” السلم اللولبى”.
قابل الرجل ملاحظتى – كالعادة – بنفس طيبة، متسامحة.لكن شخصًا مبتزًا، يعانى بالتأكيد أمراضًا لا أملك وسيلة شفائه منها.. ذلك الشخص، الذى لا أعرفه، لأنه أجبن من أن يعلن عن نفسه، إلى حد أنه كتب العنوان باليد اليسرى ـ بعث لى في فترات متقاربة – بصورة ضوئية من تحقيق إبراهيم عبد العزيز. ولعل المبتز فسر إهمال رسائله بعكس معناه، فتواصلت الرسائل.
لم أعر الأمر اهتمامًا، اعتبرته أتفه من أشغل به مساحة من حق القارئ أن يجد فيها ما يفيد.. ثم نبهنى أصدقاء إلى أن ذلك المبتز الغامض الذى يبعث الرسائل إلى الآخرين لتعويض نقص، أو مدارة فشل، أو حقد على نجاح.. هو بعض سلبيات حياتنا الثقافية.
إن رسائل العجز مجرد انعكاس لما نصمت إزاءه من سلبيات، مبعثها أمثال ذلك المبتز الذى لو أنه امتلك قدرًا – ولو ضئيلًا – من الموهبة، لعنى بالإفادة من كتابات الآخرين، وتجويد كتاباته، بدلًا من الإلحاح على ما لا وجود له، لمجرد إرضاء نفس مريضة، حاقدة!
استعدت ما حدث – في مقالة لي – منذ بداياته. لم أهمل شيئًا، ولا أغفلت ما ينبغي روايته.أدرك صاحب رسائل العجز فساد لعبته، فكتم على الخبر ماجورًا، وابتعد، دون أن أعرف – للأسف – من هو، ولا طبيعة دوره المخرب في حياتنا الثقافية.