قرأت قصة إيطالية، بطلها مسن نزيل في عنبر بأحد المستشفيات، لأن سريره لصق الجدار، ويطل على الشارع، فقد حاول التسرية عن نزلاء العنبر بوصف ما يجري فى الشارع، حركة الشارع يصنعها المارة والباعة وأصحاب الدكاكين والجالسون على المقاهي والمطلون من النوافذ، ما ينشأ، ويتواصل، وينتهي، من قصص وحكايات مبهجة وحزينة، تجتذب النزلاء. تألم نزيل في العنبر من استئثار المسن بالنظر من النافذة، ومشاهدة ما يدور في الشارع الخلفي، أفلح النزيل بالفعل في إزاحة المسن من موضعه، وحين نظر من النافذة فوجيء أن الشارع الذي أمتعهم المسن بحكاياته ليس إلا خرابة خالية من الحياة!
الإنسان الفرد – في تقدير العلماء – هو نتاج طبقته وطائفته ونظمه وعاداته وتقاليده.الإنسان يختلف عن بقية الكائنات فى احتياجه – لكي تستمر حياته – إلى الانتماء، والتعالي، أو التجاوز، والارتباط بالجذور والهوية، والراعي الذى ينصح ويوجه.
معادلة العلاقة الإنسانية تعني – بأبسط عبارة – أنا والآخر، أو أنا والآخرون، بمعنى أنه لابد أن يكون قوامها طرفان، باتصالهما تحدث إيجابية العلاقة.
قيمة الفرد في الأثر الذى يصنعه، سواء في حياته أو بعد الرحيل. الجماعية مهمة لتحقيق ذلك الأثر. النشاط الفردي ربما أضاف شيئًا إلى البيئة. أما النشاط الجمعي، فهو يبدل البيئة تمامًا، يضيف إليها ما لم تحتاجه، ولم يكن موجودًا. المثل الأمريكي يقول: إذا حصلت على ليمونة، فاصنع عصيرًا، أي حاول ألا تقتصر فائدتها عليك، بل تشمل الآخرين.
عندما أنصت إلى مشكلة ما، فإني أحاول أن أتصور نفسي في موضع صاحب المشكلة. يحزنني من يهمل مشكلات الآخرين. إذا حدثته عن مشكلة تخص الجماعة، فإنه يتحدث عن مشكلة شخصية لا شأن لها بما هو خارج الذات، الذات هي المحور والمبدأ والمنتهى، لا شأن لها بالآخرين .
يغيظنى ذلك الذى يعقب على حوار يناقش قضية مستقبلية: لا شأن لى بهذا، مشكلاتى حُلَّت!
منطق أناني يتمحور حول الذات، هى المبدأ والمنتهى. أذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذى كان أستاذنا توفيق الحكيم يصدر به آخر مقالاته: إذا جاء يوم القيامة وفي يد أحدكم فسيلة، فليزرعها!
الفلاح يزرع النخلة، ويتعهدها بالإرواء والتهذيب، يعرف أنه ربما لن يجني – في حياته – ثمار النخلة. إنها بعض ما يخلفه لأبنائه وأحفاده، هم الذين يجنون الثمار.
المثل العربى ” الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون ” لا معنى له فى إيمان الإنسان المصري بالامتداد، بالتواصل والاستمرارية، بأن يكون مستقبل الآتين أفضل من أيامه، مثلما حاول من سبقوه أن يجعلوا أيامه أكثر هناءة.
هذا هو المعنى الحقيقى للوصية: أن أوفر للورثة ما يعينهم على أيامهم، لا أعيش يومي، وأترك الغد لأصحابه.
إذا كانت التأثيرات السلبية للفردية قد أبانت عن ملامحها في عنبر المسنين، لما حرم النزلاء من الحكايات المسلية بعد أن أفلح التآمر في إزاحة الراوي من إطلالة النافذة، فإنها تبين كذلك في كل الأنشطة التي تمارسها الجماعة، يعطيها تصرف الفرد قيمتها الإيجابية، أو يسلبها تلك الطاقة.
معنى سباق التتابع في تحفيز من يحمل الراية ليسرع بتسليمها، ودفع من يسلم الراية حتى يعدو زميله، بحيث يسبق الآخرين. والهدف – في الفرق الرياضية الجماعية – يحرزه المهاجم، فيحسب للفريق بأكمله، ويجني الفريق ثمار أفعال الأفراد. من يخفق في تسجيل الهدف، أخفق في إيداع الكرة الشبكة، أو السلة، بينما كان التهديف سهلًا لو أن اللاعب مرر الكرة لزميله الأشد اقترابًا من المرمى، واللاعب الذي يرتكب الخطأ تنعكس نتيجة خطئه على الفريق.وبالطبع، فإن المحصلة النهائية تعود على جماعة اللاعبين.
الأفراد يسهمون في صناعة النجاح، لكنهم لا يستطيعون – في النتاج الجماعى – أن يصنعوا هذا النتاج بمفردهم، كرة القدم، كرة السلة، سباق التتابع، أي نشاط جماعي، النجم موجود، لكن نجوميته تظهر بمعاونة الآخرين.
تعددت وجهات النظر حول المتسبب في خروج فرقنا الرياضية القومية من الأدوار الأولى في المباريات العالمية: هل هم اللاعبون؟ أو الجهاز التدريبي ؟أو قلة الإمكانات ؟ أو الحشد الإعلامي والجماهيري الذى أثر على أعصاب اللاعبين، فخانتهم ؟
مع تعدد وجهات النظر، فإنها اتفقت في توجيه الاتهام لفردية الأداء، كل لاعب كأنه يلعب لحسابه، يستعرض موهبته، يحرص أن يشق طريقه – بمفرده – إلى المرمى. فإذا بدا زميل أقرب إلى المرمى، حاول أن يشوط الكرة من موضعه الذى قد لا يكون مناسبًا، فلا يحصل الزميل على التصفيق والآهات وإعجاب الجماهير والنقاد لو أنه تلقى الكرة السهلة، وأودعها المرمى!
حسب قواعد لعبة البلياردو، فإن على اللاعب أن يمرر الكرة من موضعه في الجانب إلى زميل يواجه المرمى الذي قد يكون خاليًا ، لكنه يفضل – في أنانية عقيمة – أن يشوط الكرة في الدفاع المتكتل ناحيته، أو في حارس المرمى، أو يشوطها خارج الملعب. ويواجه اللاعب نظرات زملائه المؤنبة باعتذار لا معنى له، فقد ضيع على فريقه هدفًا، ربما كفل له الفوز!
هل هو عيب فى التكوين النفسي للاعبين عجزوا عن التخلص منه؟ أو أن المدرب اكتفى بوضع الخطط على الورق، فلم يلحظ ما إذا كان اللاعبون قد حرصوا على تنفيذ الخطة بالأداء الجماعى، أو أن الإعجاب الجماهيري والإعلامي والجوائز والألقاب وغيرها مما يستأثر به أصحاب الأهداف؟
والحق أن ما عانته – و لاتزال – فرقنا القومية الرياضية يعكس عيبًا متوطنًا أشبه بالبلهارسيا والإنكلستوما والبلادة وأنفلونزا الطيور!
إنه غياب جماعية الأداء، كل يعزف بنفسه ولنفسه، لا يعنيه النشاز وافتقاد الهارموني الذى تتحقق به الوحدة العضوية للمعزوفة. كلهم موهوبون: عازف الكمان، عازف العود، عازف الناي، عازف السكسفون، عازف الأكورديون، ضابط الإيقاع.. إذا عزف كل منهم بمفرده، انتزع الآهات، فإذا حاولوا العزف جماعة، أتت النتيجة بجرسة لا تخطر ببال!
في اجتماعات هيئة ثقافية مسئولة، طرح زميل اقتراحًا، وافق عليه الأعضاء، وقرروا تبنيه. لكن الزميل ما لبث أن سحب اقتراحه .
سألته بيني وبينه: لماذا ؟.
قال فى بساطة مذهلة: أخشى ألا ينسب الاقتراح لي !
ظل الاقتراح مشروعاً مؤجلًا، مع أنه – فيما أذكر – كان يمثل إضافة إلى حياتنا الثقافية، لا لسبب إلا لأن مقدم الاقتراح رفض الجماعية، وخشى أن يدخل معه في الخط آخرون يشاركونه النجومية!. وللأسف فقد نسى الأعضاء اقتراح الزميل – أو تناسوه – فلم ير النور!
جرى صديقى بآخر عزمه ليلحق كرسيًا فى الأوتوبيس. عاد حزينًا لأن شابًا سبقه إلى الكرسي, قال: لا أعرف الشاب، لكنني كرهته!
وجه صديقي كرهه إلى الشاب الذي سبق إلى الكرسي، ولم يوجهه إلى الزحام الذى جعل الحصول على كرسي في سيارة عامة متعذرًا!
الفردية مدخل إلى حب الذات والأنانية والصراع، والتقليل من الآخرين، بما قد تؤثر نتائجه بالسلب على الجميع.
الجماعية فى الأداء شرط مهم لتحقيق النجاح في أي عمل ينسب إلى الجماعة. بديهية يتناساها البعض لمجرد أن يكون هو وحده في الصورة، لمجرد أن يصبح نجمًا ، يتحول زملاؤه من حوله إلى كومبارس أو ظلال.
الفردية تجاوز المعنى، ترتفع عن معناها إذا رقت إلى الجماعية في النظرة والسلوك. العمل الجماعي يعني أنه من صنع الجماعة، هي التي تدرس وتخطط وتنفذ وتجني الثمار، أو تهب الثمار للمجتمع كله. إذا تصرف كل فرد فى حدود إحساسه بالفردية، فإنه يمتنع عن وضع طوبة في البناء الذي يسكنه الجميع، أو يصنع ثقبًا في السفينة التي تقل الجميع!
عشنا أمثلة رائعة ونبيلة في المعنى الذي يضحي ليس بالفردية فحسب، وإنما بالحياة من أجل أن تنتصر الجماعة، أن ينتصر الوطن: الجندي الذي وضع جسده على الأسلاك الشائكة، ليعبر زملاؤه من فوق جسده إلى معسكر العدو. لم يتوقع إشادة من أي نوع ، ولا على أي مستوى . كل ما شغله أن يجعل من جسده معبرًا لزملائه نحو النصر
*