بقلم : د. ناهد الطحان
يقسم الزمن إلى ثلاثة أقسام هي : زمن المغامرة ، وزمن الكتابة ، وزمن القراءة ، ليوصف زمن المغامرة بأنه الزمن الذي تسرد فيه أحداث القصة أو الرواية لتجعل منها عبر تتابعها أو ربما مفارقاتها الزمنية تشويقا للقارىء كي يتفاعل معها للنهاية .
ويعد زمن المغامرة هنا – الذي يتداخل مع زمن الكتابة من قبل المؤلف شئنا أم أبينا لأن الراوي هو ما يقدمه – عنصرا هاما في نجاح النص السردي وفضاءاته وهو ما سوف نتبينه في السطور التالية عبر استجلاء آليات الزمن في قصص الأديب محمد فايز حجازي والتي عبر من خلالها عن زمن المغامرة بين الماضي والحاضر والمستقبل .
والأديب محمد فايز حجازي صدر له العديد من المجموعات القصصية منها انتيكات ، سفير ابليس ، سرقة الامام ، أزمة قلبية ، الجنة المحترقة ، ورواية الأقدام السوداء وغيرها من الأعمال السردية المهمة .
ففي إهداءاته – للأب والأم ورفقائه في السماء – التي صدر بها مجموعاته القصصية ( الجنة المحترقة ، وسفير إبليس ، وسرقة الإمام ، وأزمة قلبية ) نجده يقدم آلية دقيقة خاضعة للزمن ، بين الماضي والحاضر والمستقبل ، فهو يصور لنا الماضي من خلالهم ويستشرف المستقبل أملا في لقائهم ، كما يضع عينيه على الحاضر الذي يصارعه ، وهو ما يمكن تلمسه واكتشافه من قصصه التي نجد من خلالها استدعاء قويا للماضي حتى قبل أن يولد رغبة في الإحتماء من قسوة الحاضر وقلق المستقبل .
ففي قصة ( أزمة قلبية ) – التي نجد من خلال افتتاحيتها شمول معناها لتصف أزمة الإنسان النقي إزاء العالم من حوله – وهي ضمن المجموعة التي تحمل نفس العنوان نجد في بداية السرد تلك النظرة المتفائلة الباذخة المنتشية .. السماء البحر الرمل اللون الأبيض يكتسي كل شيء والحبيبة يدها في يده يشعر بأنه في الجنة يتراقص كل من حوله طربا وسعادة ويتماهى مع كل شيء حوله وفجأة حين تنتابه الأزمة القلبية يصطبغ كل شيء باللون الأسود الأرض السماء البحر ، تذهب حبيبته لطلب النجدة ليعيش لحظات مع موتاه وكأنهم معا في جلسة سمر في استباق زمني ، كما يرى حبيبته / زوجته ترتدي اللون الأسود في المساء معادلا للحزن والفجعة عليه وعندما تعود الحبيبة يكون قد انتشى برفاق السماء يشعر بوجودهم حوله و تتحول الحبيبة إلى ملاك جميل في ليلة القدر ، لتنتهي القصة بانتظاره لأن يرفع إلى السماء ، وكأنها رحلة فوقية تصف تلك الرؤية الفارقة بين الحياة والموت في لحظة انتقالية يعيشها من يصاب بأزمة قلبية وهو يرى الموت مقتربا لم يصبه لبطولة ما ولكن لإنهزام جسده أمام المرض وتنتهي القصة بإنتظاره في تلك المنطقة الوسطى بين الحياة والموت.
أما في قصة ( رائحة الجوافة ) من نفس المجموعة ، فنجد تلك النوستالجيا التي يكتسبها النص من البوح والفلاش باك المتوالد ، الذي نجده مع كل فقره من فقرات القصة لتحيل إلى فلاش باك متواصل بلا انقطاعات ، فرائحة الجوافة تستدعي الماضي بكل ذكرياته الهانئة حتى قبل أن يولد ، ذلك الماضي الذي يجمع بين الناس والبيوت والشوارع والساحات والمساجد في الأحياء الشعبية ، لتربط بين مفرداته رائحة الأصالة والحميمية ، ولهذا فعندما كبر الراوي وتعقدت الأمور بينه وبين ذويه شعر بالغصة والبكاء على ذلك الماضي الجميل الذي يفتقده وبالإحتياج إليه ، لكنه أيضا يجعله يهرب من رائحة الجوافة لأنها دائما ما تذكره بهذا الماضي فيحاول تجنبها بعد أن آل حاله للوحدة والإغتراب .
إن توظيف الزمن هنا لدى الأديب محمد فايز حجازي يضعنا في تساؤل مهم :
هل الزمن هنا تقنية أم أنه عنصر هام من عناصر السرد لا غناء عنه ؟؟
والحقيقة أنه بالفعل عنصر هام ، إذ نجد أن السرد في قصة ( أزمة قلبية ) يعبر عن تلك الهوة الكبيرة بين حالتين حالة ما قبل الأزمة ( الماضي ) وأثناءها ( الحاضر ) وما بعدها ( المستقبل ) ، وأيضا في القصة الثانية ( رائحة الجوافة ) يكتسب الزمن / الماضي أهمية كبرى بالنسبة للراوي بعيدا عن قسوة الحاضر ، حتى أنه لا يريد أن يتذكر هذا الماضي الجميل فيشعر بالضيق والأسى ، فالماضي ليس الطفولة ببراءتها فقط وإنما هو الناس ، الأب ، الأم ، الشوارع البيوت وطقس حياتي متكامل يشعر بالحنين إليه .
وهو ما يمكن اكتشافه أيضا في مجموعة الجنة المحترقة ، ففي قصة ( الباب العالي ) نعود إلى الماضي عبر نوستالجيا روحية وانسانية من خلال الباب العالي في مسجد السلطان حسن وهو ما يتميز بعبق التاريخ ، ليخفي هذا الباب من ورائه بعدا انسانيا يحاول الراوي اكتشافه والغوص بداخله، لولا خادم المسجد الذي يمنعه ، هذا التاريخ أو الماضي هو الزمن الذي يكسب الباب القيمة في حضور مسجد السلطان حسن وهو ما يمثل التيمة الأساسية في القصة والتي يجتهد الراوي في فك طلاسمها عبر أسئلة غيبية بالنسبة له : ماذا وراء هذا الباب ؟ هذا الشغف لدى الطفل يجعله يستدعي مفردات هذا العالم القديم يتذكر جده ذا اللحية البيضاء وذلك الحنين للماضي الذي يتسرب إلى ذاته من خلال صرير الباب العالي وهو يفتحه والشارع والعمال وقسم الخليفة وصوت أم كلثوم ..
إن عامل الزمن هنا وتداعياته هو التيمة الأساسية التي ينطلق منها السرد ليحيلنا إلى عوالم رحبة وخيالية ، فالبطل الصغير يتراءى له كما يقول أهل الحي وجود عوالم غيبية خلف الباب العالي أو ربما مخطوطات سرية ، وأصحاب العقول يقولون أن وراءه أطلال لمستشفى وبيت للطلبة وتكفين للموتى ، هذا الإختلاف في الرؤى والتفسيرات أكسب معنى الباب العالي ثراء تاريخيا وروحيا وأسبغ عليه معان قدسية صنعها تاريخ طويل .
وفي قصة ( سفير إبليس) ضمن المجموعة القصصية ( سفير إبليس ) يتبدى لنا الزمن من خلال ذلك المبنى الغريب في بنائه وطرازه من خلال أدواره المتوالية التي تمثل عصورا متتالية مثل العصر الفرعوني والعصر القبطي والعصر الإسلامي ، مما يجعل الراوي يستعرض من خلال السرد – مع غرابة الأجواء – سمات وعناصر كل عصر فنعيش في عوالم مختلفة غاية في السحر والإبهار، وهو ما نجح في تجسيده الأديب محمد فايز حجازي للتعبير عن براعة شخصية الرجل غريب الأطوار ، من خلال استدعاء الماضي في صورة عصرية حاضرة وربما مستقبلية أيضا عبر تيمات حديثة لم يكتشفها أحد بعد ، وهو ما دفع المحامي / الراوي وصديقه المهندس أن يكملوا رحلتهما لمقابلة صاحب الدعوة / الرجل غريب الأطوار، حتى يشرح لهم الكيفية التي تم بها بناء هذا الكيان المعماري الغريب من الخارج والداخل .
اذ يشكل الزمن الذي يحتفي به هنا الأديب محمد فايز حجازي عنصرا أساسيا من عناصر الدهشة من جهة وعناصر الأصالة والبراعة من جهة أخرى مما يؤكد أن الماضي مازال حاضرا بقوة فهو مخزون انساني غير قابل للتلاشي ، فالوعي واللاوعي الجمعي كما قال يونج يحمل في طياته تاريخا طويلا لتحولات ونقلات وتطورات لجنسنا البشري تختزن في جيناتنا ونكتسبها أيضا من انخراطنا في بيئتنا وما حولنا من معارف ، مما يجعل من قصة سفير إبليس عبر إطار اجتماعي بدأ به المؤلف انزياحا أكثر عمقا لرحلة الإنسانية ورغبتها الدائمة نحو التطور ، ذلك التطور الذي يشير المؤلف من خلال سلوك الرجل صاحب الدعوة إلى هشاشته لأنه يودي به إلى الإنتحار والدمار وهو ما يحدث في نهاية القصة بانهيار المبنى وموت الجميع إلا الشاهد الوحيد على الحدث وهو الراوي أو المحامي .
وفي قصة ( سرقة الإمام ) من مجموعة سرقة الإمام ، تبقى الذكرى المؤلمة لسرقة كتب الإمام الشعراوي من مسجد السيدة نفيسة هما وذنبا لصاحبها ، حتى بعد مرور 35 عاما على الطفل ، ليشعر بعد هذه الجريمة التي ارتكتبها في سن ال13 عاما بأن الجميع يراقبونه وعلى وشك الإمساك به ومحاسبته على جريمته الأب والأم ورجال الشرطة والمرور ومصطفى بائع الكتب التي سرقها ، ورغم شعوره الجارف بالذنب يبقى أمر إعادة الكتب مستحيلا مما يجعل الطفل يوفر من مصروفه من أجل أن يضع المال مكان الكتب ، وتمر السنون وتترك أسرته منطقة السيدة نفيسة دون أن يكتشف أحد أنه سارق لكتب الإمام الشعراوي الذي أحبه وشغف بقراءة كتبه ، وبعد 35 عاما يعود لنفس المكان ليجد مصطفى قد أصبح رجلا كبيرا بلحية بيضاء ، ورغم عدم توجيه أية تهمة له إلا أنه يصارع شعورا دفينا بالاضطراب والخوف في قلبه وروحه جراء ما فعل في الماضي ، وهو شعور لا يستطيع أن يهرب من تأثيره، وهو الرجل الفاضل صاحب المؤلفات الدينية والسيرة الطيبة وهو ما صنع لديه مفارقة وتمزقا نفسيا لا ينسى ، فالماضي بالنسبة له هو ذلك الذنب الذي لا يغفره لنفسه أبدا حتى لو غفر له الناس جميعا .
فالزمن هنا هو ذلك الذنب الذي اختزن بداخله ولم يعاقب عليه ، كما أنه لم يسامح نفسه عليه ربما لقداسة المكان أو لما آل إليه في الحاضر من مكانة ، إن الأجواء جميعها تكاتفت كي يتفاقم لديه الشعور بالذنب ، كتب للإمام الشعراوي ، مسجد السيدة نفيسة ، مصطفى الشاب الطيب الصالح ، وحتى بعد أن كبر الراوي وأصبح رجل دين ينصح الناس بالصلاح والتقوى، وربما كان هذا سببا أقوى لديه يشعره بالذنب لأنه أكثر إدراكا من غيره بالجرم الذي ارتكبه ، وهي مفارقة قوية تنذر كل من يحاول أن يعبث في ماضيه أو حاضره لأن تأثيراته المستقبلية لا حدود لها .
هكذا نجد أن عنصر الزمن لدى الأديب محمد فايز حجازي يمثل محور أعماله من خلال استدعاء الماضي من جهة أو التعبير عن الحاضر من جهة أخرى بآلامه وقسوته أو باستشراف المستقبل الذي يأتي في كتاباته مقترنا بالموت حينا وربما الراحة والجنة والسعادة والخلود حينا آخر ، مشكلا عنصرا دراميا فاعلا كما في قصة أزمة قلبية وقصة سفير إبليس وغيرها مما يكسب نصوصه السردية عوالم مألوفة لعوالمنا تجسد مخاوفنا واحباطاتنا وسعادتنا وأحلامنا ، دونما افتعال أو مبالغة لأنها نابعة من مخزون ابداعي ومعرفي ولغوي ثري وإيقاع حيوي، يرتحل بنا داخل أنفسنا لنستكشف ذواتنا بعين تشبهنا وتصارع معنا مغامرات الماضي والحاضر والمستقبل .