أنهيت أحدث رواية لي.
لأن الرواية توظف التاريخ، فقد استعنت بمصادر ومراجع، استعرت بعضها من مكتبات الأصدقاء، واشتريت بعضها الآخر. ألغيت مصروفي الشخصى تمامًا، وأخذت ما لم تفطن إليه زوجتى من مصروف البيت، وأخليت لنفسى إحساسها بالسعادة، وأنا أتأمل الكتب الجديدة في موضعها بأرفف المكتبة..
خطر لي – دون أن تدفعني إلي ذلك زوجتى، ولا أى أحد – أن أحصل من نشر روايتى، علي أجر يساوى جهد العامين اللذين بذلتهما في كتابتها، وثمن المصادر والمراجع وورق الكتابة والأقلام والضوء الذى يسهر إلي جانبى – كل ليلة – حتى يأتى الصباح..
كبر الخاطر في ذهني، وقررت أن أستعيد للأديب العربي ما كان يحصل عليه من مكافآت مالية باهظة. ألم تكن قصيدة واحدة يلقيها أحد الشعراء في حضرة الخليفة، أو الوالي، أو الرجل المهم، تكفيه للحياة ميسورًا طول العمر؟
إذا كانت أيام صرة الذهب التى يتلقفها الشاعر، بعد أن يبدى الحاكم إعجابه بالقصيدة (مرتجلة غالبًا ) إذا كانت تلك الأيام قد ولت، فلماذا لا أستعيدها بروايتى الجديدة؟
أحاول إقناع الناشر المتفهم – بديلًا للحاكم – بقيمة الرواية، وما ينتظرها من رواج بين قراء العربية. فيحدثنى عن الآلاف القليلة من النسخ التى ستصدر بها الرواية. قد تصل إلي أصابع اليد الواحدة، لكنها – بالتأكيد – لن تصل إلي أصابع اليدين!
أبدى دهشتى، أكرر محاولة إقناعه، بكل ما أوتيت من لباقة وقدرة علي الإقناع: عدد المتكلمين بالعربية يبلغون عشرات الملايين، ومن المنطقي أن تكون نسبة النسخ المطبوعة من أى كتاب مساوية لذلك العدد الهائل من الناطقين بلغة الضاد. أعرف أن غالبيتهم يعانون الأمية.. لكن لا بأس، فالملايين الأخرى المتعلمة تكفي.
قد يتعلل بأننا شعب يفضل المشاهدة والسماع عن القراءة. أنبهه – بتأدب – إلي طوفان الإصدارات التى تقدمها لنا دور النشر كل يوم.
أحدثه عن الطائرة البوينج التى خصصت للطبعة الأسبانية من أحدث الروايات المطتوبة بالإسبانية” . طبعت في أسبانيا، ونقلتها الطائرة إلي كولومبيا، ومنها إلي بلدان أمريكا اللاتينية.
يتأملنى الرجل من تحت لفوق. لا يتكلم، وإن قالت نظرته:
- هل تضع نفسك في مرتبة الحائز علي جائزة نوبل؟!
- لاأفقد إصرارى علي إقناعه. أحدثه عن اليخت الذى اشتراه سومرست موم من قيمة إحدى رواياته.. الطائرة الخاصة التى كانت تقل همنجواى إلي أسبانيا وكوبا وأفريقيا ليستلهم روائعه: ثلوج كليمنجارو، وداعًا للسلاح، لمن تدق الأجراس، العجوز و البحر ، وغيرها.. القصر الذى انتقلت إليه فرانسواز ساجان بعد نشر أولي رواياتها ” مرحبًا أيها الحزن” .
يهز رأسه في عدم اقتناع:
- كل هؤلاء حصلوا علي مكانة عالمية من عملهم الأول!
أحدثه عن الزعيم السياسى ونستون تشرشل. كسب من الأدب أضعاف ما حصل عليه من حياته السياسية.
تتحول ملامح الدهشة في وجهه إلي غضب:
- ألا تعرف أن تشرشل لو كتب ” ريان يا فجل ” فسيجد من يقرأه!
حتى لا يتهمنى بالغرور، أو بالجنون، أكتفي بمثل من عالمنا العربي:
أحدثه عن أديبنا الراحل إحسان عبد القدوس. أصر أن تكون للكلمة قيمتها، واستطاع – بالفعل – أن يحرك قيمة القصة السينمائية من خانة العشرات إلي خانة الآلاف.
أروى له ما عشته بنفسى، عندما طلب إحسان من جريدة خليجية عشرين ألف دولار، مقابلًا لإحدى قصصه الطويلة.
قبل أن يخذلنى الرجل، ويضعنى في وضع المقارنة مع عبد القدوس، أدفع إليه بأصول الرواية:
– اقرأها أولًا!
تم “السيناريو” كما تصورته. اتصل بى الناشر:
- الرواية أعجبتنى.. سأنشرها.
أضاف مشجعًا:
- – من حقك أن تحصل علي مكافأة تفوق ما يتقاضاه الآخرون.
نسيت نفسى، وتصورت اليخت والطائرة الخاصة والقصر والحياة الهانئة.
ثم تنبهت إلي قول الرجل وهو ينقر بأصابعه علي الآلة الحاسبة:
- سأطبع ثلاثة آلاف نسخة.. تأخذ في كل نسخة عشرين في المائة من سعر الغلاف، والسعر في حدود ثلاثة جنيهات حثًا للقارىء علي اقتناء الرواية.. ثم أسند ظهره إلي المقعد، وتنهد:
– احسبها بقى!..
عدت إلي بيتى، وفي نيتي أن أبيع مراجع الرواية، لأسد بها احتياجات أيامى القادمة!