بقلم القاص الناقد: فرج مجاهد عبد الوهاب
“أمر مخيف، ميراث الدم، ما أكثر ما قتل أبي من الناس، ولعلني هدف لتأثر الكثيرين، وما أكثر ما قتلت أنا في أقاليم حران وسجستان وغيرها، ربما عشرات الآلاف، أنها دماء لا تتوقف” ص28
“آلاف السنين والحروب لا ولن تنهي، وقودها الجنود البسطاء وتتجدد، أو تختلق الأسباب لتروي الأرض ظمأها إلى الدماء” ص73
(وهذه البحور من الدماء هل هى مباحة متاحة، أم آثمة كلها؟) ص102
ففي الحرب أناس تذبح وحاكم يربح ص105 ورغم أن الدم هو لغة المعارك التي انتصر ت فيها وما أكثرها.
– بحار الدم عميقة، ولغة الدم ربما هى اللغة الوحيدة السائدة والمهيمنة على ذلك الميثاق السردي النابه الذي عمل عليه بتقانة إبداعية وحرفية سردية واضحة المعالم الروائي المبدع “نشأت المصري” في روايته التاريخية التي كان يتجاذبها هاجسان ملمًان في بنية النص الروائي وهما:
1- أمانة النقل التاريخي التي ما نأت على ما تواضعت عليه المصادر التاريخية من قيام الدول واندلاع الثورات والحروب وموقف المعارضين الثائرين على نظام حكم حاكم يرى في إراقة الدماء دون مبرر أسبابًا لوجوده واحتفاظه بكرسيه.
2- إجراء ما يفرضه الفن الروائي من سرد إبداعي معني بنمط القص المفتوح على شخصية محورية تساندها مجموعة من الشخصيات معه مما يحقق للرواية التاريخية شرط الانسجام الداخلي الذي يبني قواعده من خلال منطق الأحداث الذي ينظم مختلف مقومات النص السردي الذي حمل عنوان “دماء جائعة” وصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في دخول حر وتداخل إبداعي مع الخليفة العباسي المهدي بن أبي جعفرًا لمنصور الذي تولى الخلافة مقتنصًا حق غيره في الحكم “عمومًا لا ذنب في، أبي المنصور هو الذي حصل على البيعة لي بالمكيدة والتهديد وصار أمرًا مقضيًّا” إنها بداية ملتبسة، فالعدل ليس تاجًا تلبسه عند الضرورة وسيأتي مفكر مشهور يقول: إن الغاية تبرر الوسيلة ص11.
ولم يجد من سبيل لتقوية مركزه سوى الدماء والخلاف بين الأخوة على ولاية العهد ونفوذ زوجات المهدي وجاريته في فضاء درامي تنفجر من جوانبه دماء المعارضين والزنادقة في ميثاق سردي تابع المهدي خلاله حياته الخاصة والعامة وفي صالونات الشعر والغناء التي كان المهدي يعقدها في قصره ويوزع الهبات على من يمدحه من الشعراء وفي جلسة الحكم يطلب من حاجبه والمسؤول عن شؤون القصر، معاوية بن يسار، اطلاعه على بيان السياسيين المرميين في سجونه للنظر في أمرهم، فانزعج معاوية، حتى إن المهدي فاجأه بقوله : هل لك خصوم شخصيون في هؤلاء المساجين؟
فيرد مضطربًا، كلا .. كلا .. لكن ربما كان بعضهم يضمرون الشر لنا فيقول المهدي.
– حين تفرج عنهم، سيهرب الشر من قلوبهم، يعرج الراوي على نساء الخليفة فيحصرهم في ثلاث نساء: سلافة كان لها من الجمال نصيب كبير وهى جارية ربطة أما الثالثة فقد ابنة عمه زوجته الثانية – الخيرزان – ومع ذلك كان يميل إلى سلافة التي هواها دون تردد، وينفرد بالخيزران التي تسأله عما يشغله، فيجبيها.
– يشغلني أمر منذ وفاة أبي، إنني أعتزم الإفراج عن آلاف المسجونين كما أريد أن أتبرع بنصف ما أملك للفقراء، وأكاد أشعر أن هذا حقهم، فهل أفعل؟ وأنت كما تعلمين عقلي الثاني، أجابته بما لم يخطر على باله.
– وماذا عن الذين قتلوا ظلمًا بسبب العقيدة والاختلاف في الرأي مع الخليفة المنصور كيف تعيد الحياة لهؤلاء؟
ومع ذلك يحقق ما أراده ويفرج عن آلاف السجناء ويوزع جانبًا من ثروته على الشعب.
ويستوقف موسى الهادي أمه الخيرزان ويقول لها:
– أشم رائحة الخيانة قالها وفي عينيه أنياب كراهية وليدة.
– أنت تكلم أمك، لماذا تنظر هكذا؟
– لأنك أمي، تشعرين بما داخلي وهو كثير.
– عساه يكون خيرًا.
– ليس دائمًا، أنت والمهدي وهارون المدلل ثلاثي العذاب.
– إياك أن تنطقها ثانية.
– لكنها الحقيقة، ولهذا تغير لونك، لم يقو لسانك على إنكارها.
– تخريف في تخريف.
– المهدي الآن مع هارون يعطيه وقته وخبرته وحنانه، ويشيد به في كل مكان، وكأنه ولده الوحيد، وأنت أكثر انحيازًا .. أنا الأكبر.
– لكنه الأفضل يا أحمق. …. إلى آخره.
وعلى مستوى المضمون أعاد المبدع إلى أذهان قرائه جانبًا من جوانب العصر العباسي إبان خلافة المهدي الذي سال الدماء في عدة أنهارًا وهو يبطش بمعارضيه ومن كان ينتقد حكمه من كانت خلافته من أشرس الأوقات التي شهدتها بفؤاد قدمها المبدع على شكل حكاية سردية كسرت رتابة السرد التاريخي وحولته إلى إحالات ترقب وإدهاش في محاولة متقنة إلى مستوى درامي استطاع أن يحول الثابت إلى متحرك تحيا من خلاله شخصياته في مستويات سردية كل مستوي يفضي إلى الآخر من خلال فصول الرواية التي شملت أربعة وعشرين فصلاً، كان من أهم ما يميزها عناوينها التي بالإضافة إلى كونها عتبات إجرائية للدخول إلى مناخات كل فصل فإنها كانت همزات الوصل لبنية الحكاية التي كانت تتنقل من فضاء إلى آخر في بنية الحكاية مما عزز شكلانية الرواية وهى تشتغل على حبكة تاريخية لم تنأ عن إسقاط واقع الدم على الحاضر باستناد ما يجري في الوطن العربي من إراقة الدماء دون حساب، فهل أراد المبدع أن يعيد ماضي المهدي الدموي إلى الحاضر الذي لا يقل دموية لدي بعض الحكام الدمويين أيضًا، لقد كان المبدع في روايته ميالاً إلى المقولة التي تقول: “إن تصوير التاريخ مستحيل على المرء ما لم يجدد صلته بالحاضر” إلا أن هذه العلاقة التاريخية في حالة وجود فن تاريخي عظيم حقًا، لا تكمن في الإلماع إلى الواقع، بل تكمن في جعلنا نعيش التاريخ مجددًا باعتباره ما قبل تاريخ الحاضر.
وهذا ما أرادته رواية “دماء جائعة” التي وصلت الماضي المأساوي الدموي في عصر المهدي بالعصر الحاضر الذي لا يقل مأساوية ودموية عما سبق، وبهذا كشفت عن الإشارات السريعة التي أظهرت بنية تطور الرواية التاريخية العربية المعاصرة ومد إسهامها الفعلي والجاد في تنامي خصوصية الرواية التاريخية التي ظهرت بوادرها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد سليم البستاني وجرحي زيدان وفرح أنطون، ويعقوب صروف وغيرهم ثم أخذت تشتد جذورها وتتطور حتى وصلت إلى ما نراه اليوم من نشاط فعلي لهذا الجنس الروائي التاريخي البعيد عن الأسلوب الحكائي الطويل والمحلي ونقله إلى فضاء مرن وسهل قائم على عناصر التشويق والإدهاش.
هذا ما اختصت به رواية “دماء جائعة” التي تعد بحق إضافة رائدة إلى هذا المنتج الإبداعي التاريخي الذي على عظمته لا يفضل الماضي عن الحاضر بل يقدمه من خلال إسقاط حيوي يجعل القارئ وكأنه يعيش الواقعين مقارنًا ومحاسبًا ومستنتجًا وهو في قمة نشوية وجماليات متعة تلقبه لمثل هذا الإبداع التاريخي الموثق الذي لا تخريف فيه ولا تحريف وإنما تجسيد لواقع معنى وحاضر حمل بعضًا من سمات الذي مضي بحرفية فنية ومكنة إبداعية ومرجعية موثقة كان نشأت المصري أمينًا عليها في كل فصل أو نقلة من روايته الرافدة لمصطلح الرواية التاريخية .