لعل الظاهرة التى تكاد تنفرد بها حياتنا الثقافية، أنها تقسم الأدباء إلى كبار وشباب، وهو تقسيم لا يكتفى بحد العمر، لكنه يتجاوزه إلى المكانة الأدبية، والمقابل المادى، وفرص النشر.. حتى لو كان إبداع الأديب الأكبر سنًا أقل نضجًا من إبداع الأديب الأكثر شبابًا. والأمثلة لا تعوزنى، فهى كثيرة، وإن كان أشدها غرابة وقسوة حين شطب محمد حسنين هيكل اسم أحمد هاشم الشريف من قصته ” اللصوص ” بحجة أن تقاليد “الأهرام” تمنع النشر للأسماء الشابة. وظهرت القصة لقيطة بلا أب. وإن كان رد الفعل الذى أحدثه السؤال عن كاتب القصة قد أفاد أحمد هاشم الشريف أضعاف ما كان سيحدثه نشر الاسم!.
إذا كان الرأى بأن تقدم أعوام الكاتب يهبه المزيد من الخبرة والاطلاع والإمكانية، فإن ذلك يصعب أن يجد له تطبيقًا فى الكاتب المبدع. والأمثلة لا تعوزنى كذلك.. فعودة الروح ويوميات نائب فى الأرياف وأرخص ليالى والعشاق الخمسة وزقاق المدق والقاهرة الجديدة من خير ما كتبه مؤلفوها. وكانت هي الأعمال الأولى لكل منهم.
الفن يرقى درجات من الجنون، وأنواع الكتابة الأدبية الأخرى، كالدراسات والنقد وغيرها، ترقى درجات من العقل. وكلما تقدم السن بالمبدع خبت لديه تلك الجذوة المشتعلة المجنونة المسماة بالفن.
من هنا، يأتى توقف معظم المبدعين عن العطاء فى مرحلة ما من أعمارهم عن الإبداع الفنى، بينما يستطيعون – ببساطة – أن يواصلوا الكتابة فى مجالات أخرى كالنقد الأدبى والسياسة والاجتماع. فإذا اعتبرنا نجيب محفوظ هو الاستثناء الذى يؤكد القاعدة، فإن يحيى حقى توقف عن الإبداع قبل أن يبلغ الستين، والحكيم اكتفى – بعد السبعين – بتسجيل بعض ذكرياته، وإثارة قضايا عامة يحاول بها لفت الأنظار، وتخلى محمود البدوى – فى أعوامه الأخيرة – عن الإخلاص المطلق للقصة القصيرة، واستدعى إلى ذاكرته سيرته الذاتية ورحلاته، ونضب عطاء يوسف إدريس الفنى إلى حد الندرة، ثم وصف خواطره الصحفية ويومياته بأنها لون جديد من القصة القصيرة!
أخيرًا – والمثل هنا من الخارج – فقد كان الباعث وراء انتحار همنجواى – كما تقول أقرب الروايات إلى الدقة – أنه اكتشف عقمه الفني، فآثر الخلاص من الحياة.
على الرغم من وضوح القضية، وأن التعامل مع الطاقات المبدعة بمقياس السن خطأ أكيد، فإن حياتنا الثقافية أحرص ما تكون على الالتزام بهذا المقياس المتعسف، ومن ثم يظل الأديب شابًا حتى يجاوز الخمسين، لأن صفة الشاب هنا تختلط بمدى حصوله على الفرصة.
تنقضى الأعوام، وتتساقط فى الطريق مواهب وقدرات، ولا يظهر فى حياتنا الثقافية منذ يوسف إدريس أي اسم يحقق رأيًا عامًا، تأثيراً فعليًا، ولا يواجه مشكلة النشر، ويناقش النقاد أعماله، ويجد منتجو السينما في الاسم – اسم الفنان لا العمل الفنى – مكسبًا لفيلم جديد، ويقتنى القراء أعماله دون أن يوجهوا السؤال أحيانًا إلى البائع: هل اشترى هذه الرواية، أو المجموعة القصصية، أو المسرحية، أو الديوان الشعرى، أحد قبلى ؟!
بالمناسبة، روى لي أستاذنا نجيب محفوظ – يومًا – أن نشأته فى الأحياء الشعبية أتاحت له التعرف – بصورة مباشرة – إلى حياة الفتوات، وما كانت تزخر به من بطولات وخيانات ومعارك لا تنتهى. انعكس ذلك كله – بالطبع – فى عالم كاتبنا الكبير، الروائى، منذ “بداية ونهاية” إلى “أحلام فترة النقاهة”. وبقدر ما كان نجيب محفوظ الطفل يضمر إعجابًا حقيقيًا بالفتوات، فإنه لم يكن يملك إلا الإشفاق على هؤلاء الذين تحددت وظيفتهم في تلقىي الضربات أثناء المعارك المتوالية، وكانت قوتهم الجسدية هي عنصر امتيازهم الوحيد.
ولأن الفتونة ليست قوة جسدية فحسب، إنما هى إرادة وذكاء وقوة شخصية وحسن قيادة للآخرين، فقد كان مساعدو الفتوات تكوينًا أساسيًا فى ذلك العالم المثير. بدونهم تزول سيطرة كل فتوة على الحي أو مجموعة الأحياء، وتتحول معاركه مع فتوات الأحياء الأخرى إلى خناقات فردية، دون أن يجاوز تأثيرها الفتوات أنفسهم.
أما المساعدون، فبالإضافة إلى أنهم كانوا يتلقون الضربات، فقد كانوا – فى الوقت نفسه – يبلغون الإنذارات، ويتلقون الإتاوات، ويضعون أعينهم على تحركات الفتوات الآخرين وعلى الشرطة فى آن.
باختصار، فإن مساعدي كل فتوة كانوا هم العامل الأهم في إبرازه، وتقديمه، وفرض سطوته، وإن ظلوا – دومًا – على الهامش،ً فى عالم الفتوات.
ذلك العالم الأسطورى – كما رواه أستاذنا محفوظ – يذكرني – إلى حد كبير – بواقعنا الأدبي والفني المعاصر.. فما أكثر مساعدي الفتوات في عالم نجيب محفوظ نفسه، بل إن جيل يوسف إدريس بكامله لم يزد دوره عما كان يفعله مساعدو الفتوات في مطالع القرن العشرين. أبدعوا، وعني النقد بكتاباتهم، ودخلوا المعارك الفنية والنقدية، فلما انحسر المد بدا يوسف إدريس متفردًا فى الساحة!
لعل المشكلة التى تحياها أجيال ما بعد إدريس أن رأيًا لم يتكون بصورة حاسمة حول اسم محدد. فالأسماء تظهر في حياتنا الثقافية كالفلاشات التي تضئ جدًا، ثم تختفي بالكيفية ذاتها. ظهر الكثير من الإبداع، اعتزت بعرضه فاترينات المكتبات في وسط البلد، وأفردت له صفحات الجرائد والمجلات، ومساحات الفضائيات في برامج التوك شو، واستمعنا إلى كلمات مثل العبقرى، والفلتة، والكاتب العالمى، وغيرها.
أخشى أن نكون قد تحولنا جميعًا – والظواهر كثيرة – إلى مساعدين – وهنا الحسرة! – لفتوات الأجيال السابقة.
أين فتوات الجيل الحالى؟